وصف الكتاب:
كُـلَّمـا قرأت أقِفُ بين السّطور لأُبصـر الكاتب، وأسمع وحيه، ثُمَّ لِأَنسُجَ بالـحواس غايته، وأبحث كلمـاته لأقتني العَذْبَ. وأسفاري مع الـحروف أينعت، فقطفت الأفكار، كلوحة تنتظم فيها الألوان، وتتكلّم بالإشارة كالعبارة، فالرّيشة والقلم توأمان، كِلاهما يَـخُطّان العلم. وَلَـمَّـا وُلِدَتْ حُروفي، رِحْتُ أَغْذُوها بالـحُب، وأكْسوها بالـحقيقة؛ لِـيَـرْتَع في ظِلالـها البصير. إنَّ الكلمـاتَ خَتْمَ العُـقول، وَمِن الكِـياسةِ إنصافُ القارئ، وتجريدُ النَّصِّ من الإفاضةِ، والاستدلال بمـا يُثبت البرهان، وهَجر الغَريبِ والـمُنكر من الأخبار. وصناعةُ العلم، بِلُـغَـة يافـعة، يَزينُها الـمَنطق الزاهر، الـموسوم بالوقف والابتداء، والوصل والاستفهام، تُـحَلِّلُ الكلمـات، ثُم تستقرئ ما تُـثْـبِـتُـهُ لِـسِواها، وَمَـيْسَمُ فُصُولـها الـخُلاصة. والكتابة لسان الكاتب، وأبـْـلَـغُ حديثه، وعُنوان عقله، وميزان فهمه، يَـحْفَظُ فيها الـمعاني، وَيُعْرَفُ بها. والعزم على قبضة القلم عِلْمٌ بِالإمكان على صِياغَةِ الـجَواهر، وَإرادة بلقاح الـمَعرفة تُـنْجي. سليمة القَصْد، صحيحة القِوام، فريدة الـمعاني، تلمع بين أقرانها، وتُـجْلي صدأ القلوب النّافرة من التناسخ، وأشباهَ النُّصُوص كالعصف الـمأكول. وما بين القلم والقرطاس تنتظم القوافل، وَلَــمَّـا تُـحْيى الصُّدُور بالصدق تُشْـرِقُ بالشُّكْرِ وَفاءً، حينمـا تـجد خُلاصة رحلاتنا في الكُـتُب لَـوْنـاً تَأْنَــسُ به النُّـفُوس، نَـقِـيّا لا تَشُوبَهُ الظُّـنُون. وَمِـمَّـا أُبـْـصِرُ في الـمـاضي كانت أقلام الـحاضر هزيلة، تستنجد القواعد التي تُعيد لـها الـحياة، بِـحُـرُوف من نور، خزائنها العلم، ووزيرها الحلم، فَـنَـبَـتَتْ كلمـاتي وَنَـمَتْ على ساحل الأمل، رَجاءَ أن تَسِيحَ في شَغَفِ الكاتب الأمين، وهو يغرس مَلَـكاته في سُطُور، يَـرْتَـشِـفُ عَذْبَها الظِّمـاء، وَتُـحْيى ثَمَّةَ نُـفُوسٌ بِلا زَيْفٍ، وَتُدْرِكُ الفَتْحَ.