وصف الكتاب:
من المؤكد أن القيام برحلة الحج هو الهدف الأكبر لكل مسلم أيا كان موطنه، ولكن هناك مسلمين قاموا بهذه الرحلة بأسلوبهم الخاص، فامتطوا خلالها أسنة أقلامهم وسافروا عبر الورق ليحققوا في النهاية الهدف المنشود، وهو الوصول لأرض الحرم والطواف والسعي مصطحبين معهم قلوب القراء التي تنبض بالرغبة الجارفة للقيام بهذه الرحلة الروحانية المباركة. ومن هؤلاء الذين قاموا بالرحلة عبر الورق الناقد المصري د. مصطفى عبدالغني في كتابه "جسر الجمرات"، وهذا الكتاب يمزج بين السيرة الذاتية للمؤلف ووصف للأماكن المقدسة في مكة والمدينة وشرح للشعائر الدينية في منى وعرفات، وقد زخر الكتاب بالكثير من المصطلحات الفلسفية والدينية، إلى جانب الآيات القرآنية التي تدعو إلى الحج وكذلك الأحاديث النبوية، وفي أقسام الكتاب الثلاثة يتحاور المؤلف مع نفسه في مونولوج صاف شفاف يتلمس حياة الإنسان ومشاغله، منذ بدء الرحلة حتى يصل في النهاية إلى جسر الجمرات. والكتاب عبارة عن تجربة روحية خالصة يعترف الكاتب بأنه أراد أن ينظر خلالها لرحلة الحج التي قام بها في العام الأخير من القرن العشرين بوعي لم يسلمه إليه الذوب الروحي الخالص، فالكاتب لم يتمكن من التخلص من عبء العصر وثقله العنيف على وجدانه حتى مع ذوبانه في التجربة الروحية، لهذا فإن كتابه ملئ بالرموز الخاصة برحلة الحج، والتي يسقطها بوعي كامل وبراعة على واقع الأمة والمخاطر التي تتعرض لها، قائلا: "إن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه عالمنا العربي/الإسلامي اليوم يعكس عديدا من البواعث التي أيقظتها هذه الجموع في هذا الموسم، فإن الجهاد ضد العدو يظل هو الجهاد الأكبر، والجهاد ضد النفس الأمارة بالسوء والاستكانة والضعف والهوان، هذا كله يظل هو الجهاد الأكبر كما جاء في الحديث الشريف." فالدكتور مصطفى عبدالغني لم يستطع أن يتخلص من همه الدائم بالقومية العربية حتى وهو يؤدي مناسك الحج، أما وهو يكتبها فقد كان مشهد المسلمين وهم يطوفون أفواجا بالكعبة المشرفة دليلا عنده على أنهم يمكن أن يتحدوا ليكونوا قوة تطيح بكل أعدائها. ومن تلك المصطلحات التي أثارت حفيظة المؤلف فأخذ على عاتقه مشقة البحث وراء دلالاتها مصطلح "رجم الشيطان" يقول المؤلف "كان السؤال الذي ألح عليّ هو: من هو الشيطان الذي جاءت الملايين من شتى أنحاء العالم لرجمه هنا؟" ويواصل المؤلف جهده الجهيد وراء المصطلح يتتبع دلالاته فيقول "لابد أن نتمهل أكثر عند بعض معاني القرآن الكريم للشيطان، فهي معان ترتبط بالعقيدة في المقام الأول - وهي بالتبعية ترتبط بمعنى مجازي أبعد من المعنى العام. أبعد من أن تقذف بعدة حصوات على نُصب حجري مقام هناك لمرات عديدة وحسب . . وأورد المؤلف الكثير من الآيات القرآنية حول الشيطان. وهكذا فإن كل شئ في الحج له إسقاط على نفس الكاتب، فالإحرام يشير إلى الموت، الطواف يسلم المرء إلى الله، والسعى إرهاق وتعب في سبيل الله، وزمزم هي الحياة والكينونة، ويوم عرفة يجعلنا نتوقع يوم القيامة، والمزدلفة تمثل الظلام الذي يسبق اليوم الجديد، ومنى تمثل الوفاء من خلال نحر الأضحية، وخلع ملابس الإحرام بمنى يعني حياة جديدة، ورمي الجمرات يرمز لكفاح مدى الحياة ضد كل ما هو شر، وفي النهاية يتضح أن طاعة الله سبحانه تعالي هى محور الحياة. وهكذا فلا ينفصل الكاتب عن واقعنا في رحلة الحج، فهو يؤدى المناسك لله سبحانه تعالي، لكنه لا ينسى أننا يجب أن نستفيد من رحلة الحج استفادة كاملة في علاج حاضرنا، فهو في مكة مثلا لا يمكن إلا أن يتذكر القدس فالمسجد الحرام يوحي إليه دائما بأن القبلة الأولى للمسلمين لا تزال أسيرة، وكان التجمع الجغرافي يشير على القصد نفسه، إذ كانت الأمة تتجه إلى مكان واحد لإنقاذ الأمة مما حاق بها من التخلف والتمزق والضياع في هذا الزمن الغربي، وكان الهدف واحدا وهو ضرورة تكاتف أصحاب هذه العقيدة للوصول إلى الخلاص من هذا الواقع الرديء. ولاحظ مصطفى عبدالغنى أن أناسا من كل بقاع العالم جاءوا لتأدية الفريضة والأدعية تتصاعد بصوت عال ودموع وصيحات تقترب من (التعديد) وهو لون من الإنشاد ينتشر في الريف المصري على الموتى، أدعية لم يستطع أن يصل إلى معناها وإن فهم أنها تعبّر عن نوبات عنيفة من الحزن والبكاء على حال الأمة. وهكذا فالكتاب التزم الجدية الكاملة في وصف الرحلة وأفاض الكاتب في شرح مشاعره القلبية، لكنه أطلق في الوقت نفسه العنان لمشاعره العقلية كمفكر لا يمكن أن ينسى محنة الوطن، وهو ما يجعله كتابا فريدا من نوعه، فهو يعد الإصدار الأول الذي يعالج رحلة الحج بهذه الطريقة رابطا بين روحانياتها والحلول الربانية السحرية لمشكلات الأمة الإسلامية وأزماتها، فهو يوجه رسالة واضحة مفادها أن في رحلة الحج واتحاد المسلمين وتجمعهم حول الكعبة أو على صعيد عرفات ذلك الحل السحري الذي نبحث عنه دائما دون أن نجده.