وصف الكتاب:
وإذا حاولنا أن نتعرف إلى وجهة نظر أحمد كمال زكى فى ديوانه "غواية التسبيع" الصادر حديثًا عن مكتبة الدار العربية للكتاب، فإننا نجد أنه يسعى لابتكار جديد للكتابة الشعرية، هكذا يقول الشاعر فى توطئته الحتمية التى يستهل بها ديوانه، هذه ليست مُقدِّمةً، ولكنَّها توطئةٌ حتَّمَتها طبيعةُ الدِّيوان، بوصفه "تجربةً جديدةً، تعتمد "قانونًا مُبتكرًا" للكتابة الشعرية، يرتكز إلى وحدةٍ شعريَّةٍ تُسمَّى "لتَّسْبِيْعَةَ"، منها يأخذُ الدِّيوانُ اسمَه، ويستمدُّ وَسْمَه، فى محاولةٍ لتأسيس لونٍ جديدٍ من الكتابة الشِّعريَّة.ثم يُعرف زكى التسبيعة بأنها قصيدةٌ مُكوَّنةٌ من سبعة أبياتٍ / سطورٍ، يتكوَّن كلُّ سطرٍ من عددٍ من التفاعيل تُقابل ترتيبه، بحيث يتكوَّن السَّطرُ الأوَّلُ من تفعيلةٍ واحدةٍ، والثانى من تفعيلتين، والثالثُ من ثلاثِ تفعيلاتٍ، وهكذا، حتى السطر السابع - الأخير - الذى يتكوَّن من سبع تفعيلات، كُلُّها تخضع للقانون العَروضِى الخَليلِيّى، أما القافية، فيقول زكى إنها لا يحكمها قانون - حتى الآن - إلا التذوق الأدبى الذى يتلاءم والشعر الموزون أو التفعيلى.. ويضم هذا الديوان تنويعات عديدة من القوافى، بعضها يسير وَفق قانونٍ خاص (تلقائى)، زكى اختار اسم التسبيعة وعدد أبياتها مستندًا إلى تعريف القصيدة وعن هذا يقول: عدد أبيات التسبيعة "العادية" هو سبعة أبيات، تبدأ بتفعيلةٍ واحدةٍ، ثم تتزايد حتى تنتهى بسبع تفعيلات، والسبب فى تكوُّن التسبيعة من سبعةِ أبياتٍ يرجع إلى أنَّ تعريفَ "القَصِيدِ"، أو "القَصِيدَةِ" - كما ورد فى المعاجم - هو: "سبعةُ أبياتٍ فأكثر"، وهذا معناه أن "التسبيعة" ستكون مثالًا نموذجيًّا للقصيدة بتعريفها المُعجمى، فضلًا عن تميُّز هذا الرقم عند كثيرٍ من الناس – وأنا منهم - واعتباره رقمًا مُقدَّسًا، أو استثنائيًّا بين غيره من الأرقام، ومن هنا جاءت تسمية القصيدة بـ "التسبيعة"، على اعتبار أنَّ الكتابة تعتمد قانون التسبيع، من الرقم سبعة. القانون الشعرى غير أن زكى الذى ألزم نفسه فى هذا الديوان بقانون التسبيعة، لم يقف عند شكل واحد منها، بل نوّع وغيَّر شكل التسبيعة، حينًا يستخدم التسبيعة المقلوبة، حيث تبدأ من أسفل إلى أعلى بشكلٍ عكسى، وحينًا يستخدم التسبيعة المعكوسة حيث تبدو التسبيعة كما لو كانت معكوسةً على الماء، أو المرآة، فتُكتب بشكلٍ عادى، من السطر الأول إلى السطر الأخير، لكنَّها لا تنتهى عند السَّطر السَّابع كالعادة، بل تمتدُّ سبعةَ سطورٍ أُخرى، تكون فى هذه الحالة متناقصةً، بحيث يتكوَّن السَّطر الثامن من سبع تفعيلات، والتاسع من ستٍّ، والعاشر من خمسٍ، وهكذا حتى نصل إلى السَّطر الرَّابع عشر، الذى يتكوَّن من تفعيلةٍ واحدةٍ فقط.أما القانون الشعرى الذى التزمه زكى هنا فيقول عنه إنه ليس له أى حدودٍ أو قيودٍ، فهو قابلٌ للكتابة من خلاله فى أى بحرٍ من البحور الخليلية التقليدية، وأى غرضٍ من أغراض الكتابة الشِّعرية (هناك بعض التسابيع كُتبت عمدًا فى مناسبة معينة أو غير ذلك لاختبار مرونة وحدود القانون الشعرى المطروح هنا)، ويضُمُّ هذا الدِّيوان سبعًا وسبعين تسبيعةً من أربعة بحورٍ فقط هى الكامل، الوافر، الرمل، والرجز.هذا ويقول زكى عن تجربته هذه إنّها وإن تبلورت وأخذت شكلًا متكاملًا، إلا أنها لم تصل إلى تخوم النهاية أو التحديد القاطع بعد، والفكرة ما زالت فى طور البداية والتنامى والتطور، والكتابة ما زالت مستمرة ومتطورة، من خلال تسابيع جديدة وتنويعات أخرى. لغة رائقة فى تسبيعته زهر المرقد يقول زكي: لَا تَقْنَطُوا! يَا تَابِعِى الأَكْرَمِين إِنِّى أُخَوِّلُكُم فَضَاءَ الوَهْمِ فَابْــ تَهِجُوا كَمَنْ يَصْحُو، وَكُلُّ النَّاسِ غَطُّوا فِى سُبَاتْ! وَكَصَوْتِ عُصْفُورٍ يُسَبِّحُ لِلمَحَبَّةِ، رَجِّعُوا أُرْجُوزَتِـــــــيْ هَذِى المَزَامِيْرُ الَّتِى أَلقَيتُهَا - فِى ذَاتِ يَومٍ - بَيْنَكُم كَى تُزْهِــــــرُوا سَمَقَتْ وَأَيْنَعَ زَهرُهَا، فَتَزَاحَمَ الرَّامُونَ يَرْجُونَ اجْتِثَاثَ بَهَائِهَا مِن مَرْقَدِى! “ يحتوى ديوان زكى هذا على سبع وسبعين تسبيعة تختلف أغراضها، ما بين الكتابة عن الحب، عن الوطن، عن العلاقات الإنسانية، عن العروبة، عن الشهداء، كما تنحو بعض التسبيعات نحو الحكمة التى يبثها الشاعر من خلالها.هذا وتبدو لغة زكى فى تسبيعاته هذه رائقة فى معظمها، مبتعدة عن الغموض، على الرغم من استخدام الشاعر لبعض المفردات التى أصبحت، فى نظر البعض، مفردات معجمية، لن يفهمها البعض إلا بوجود هامش يشير إلى معناها. وبعيدًا عن تقنيات الكتابة وقوانينها، نجد أن أحمد كمال زكى يرى الشعر فى بساطة السرد الشعرى، فى تكوين الجملة الشعرية السهل، الذى يجعل المتلقى يظن لوهلة أولى، أن ما يقرأه كلام عادى، وأنه يمكنه أن يكتب مثله من دون جهد، غير أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، لا سيما وأنه يكتب بطريقة السهل الممتنع، فى انتقاء الصورة الشعرية البسيطة ظاهرًا، العميقة باطنًا، ويضاف كل ذلك إلى بحثه عن فكرة شعرية جديدة وغير مطروقة.كذلك يستخدم صورًا شعرية سهلة التلقى، ولا تقترب فى الوقت ذاته من المجانية.وختامًا أكرر أن أحمد كمال زكى يبدو محتفيًا فى ديوانه هذا، إلى جانب احتفائه بالرقم سبعة، بالصورة الشعرية الجميلة والفكرة التى تفوح ذكاءً يُلقى دهشة كبيرة على المتلقى حال تفاعله معها، مع غوصه فى أعماق النفس الإنسانية، محاولاً سرد وقائع وطقوس حياتية تتشابه، إلى حد ما، بين كثيرين يعيشون الظروف نفسها وإن اختلفت وتباينت تفاصيلها.