وصف الكتاب:
يتتبع المؤلّف في هذا الكتاب الكثير من الموضوعات ذات الصلة بما نوّهنا إليه أعلاه، ولكن من جهة الجمع والتأريخ للكثير من التفاصيل الدقيقة لحياة وسلوكات المجتمع التي لم يدوّنها التاريخ الرسميّ وأهمية هذه المساعي في الحراك الثقافي، وهو إلا ذلك يربط بحثه بالجوانب النظرية المعززة لتوجّهاته الفكرية، إذ إنه في البداية سوف يتبنى نظرية الإيقاع ويوضّح أثرها في التفكير الشفاهي، وليؤكّد من ثمّ أن هذا النمط من التفكير يميل إلى أن يكون إيقاعياً على نحو ملحوظ حتى من الناحية الفيزيولوجية ويساعد على التذكّر باعتباره يعتمد عبارات نمطية تستخدم بمهارة للتعبير عن جوانب مختلفة من الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان، وخصوصاً في جانب المخاصمة اللفظية الذهنية البدوية التي تتطلّب دائماً شكلاً من أشكال التحدّي والمجابهة بين مجموعتين أو أكثر، وهي تتمثّل في الأمثال والألغاز التي تقتضي في الغالب تحدياً للآخر لمقابلتها بالمثل. ويذكر المؤلّف أن هذه المخاصمة أو المنابذة قديمة قدم التاريخ، فهي موجودة لدى أبطال الإلياذة وروايات العصور الوسطى الأوروبية والملاحم الأفريقية وفي سائر المجتمعات الشفاهية، لتتخذ أشكالاً فنية وربّما ما يشبه المسرحيات البسيطة كالمبارزات الكلامية وغير ذلك مما هو معروف في الأوساط الاجتماعية العربية، ومن ذلك ما يعرف بفن (القافية) في مصر وفن (القلطة) في الشعر النبطيّ الذي بتعبيره يعتبر من فنون المبارزة اللفظية الشفاهية لدى عشّاقه من شعراء ومهتمّين. ومن جانب آخر سوف يردّ المؤلّف على الفرضية القائلة: «إن الشفاهيين أناس غير أذكياء في الأساس، وإن طرق تفكيرهم ساذجة»، وسأعتبرها فرضية خطأ ومردود عليها، لأن عالم الشفاهيين خصب وغني ونموذجه غربياً «الإلياذة» وعربياً «الشعر النبطي» أو الشعبي، وسيفصّل في ذلك بمزيد من التفصيل من خلال فصول الكتاب الأخرى. في الفصل الثاني المعنون ب«أهمية المصادر الشفاهيّة» سيعالج المؤلّف أربع قضايا أساسية، دعا في أوّلها إلى ضرورة العناية بالوثائق البشريّة المتمثّلة بالرواة والشعراء وغيرهم من كبار السنّ باعتبارهم شهوداً على مضى وانقضى، وباعتبارهم أوعية معرفية للتراث الشعبي، وأن ما يحملونه من كنوز في الآداب والموروث الشعبي قد يمتاز على الآداب المدوّنة. حيث يؤكّد المؤلّف في هذا الصدد أن الرواة من كبار السنّ يعدّون بالنسبة للمؤرّخ مصدراً مهمّاً في تدوين مادته التاريخية، باعتباره شاهداً أو معايشاً لزمن وقوع الحادثة أو قريباً منها توخياً للدقّة في التأريخ، وبذلك فإن الرواية الشفهية، بالرغم من بعض محاذيرها التي يوردها بالتفصيل، تبعث الحياة في الخبر مما يجدر تحويلها إلى تاريخ مدوّن. ويأتي فصله الثالث حاملاً مجموعة من العناوين المهمّة في حياة المجتمع الإماراتيّ: الأنساب كمدخل للدراسة، نوستالجيا البداوة، الصحراء فتنة الآخر، الجمع والتدوين، العودة إلى القبيلة، جهود الرحالة والمستشرقين في جمع ونشر الخبر، وأخيراً الشعر النبطي. وإلى ذلك فإنه سوف يبيّن أهمية الأنساب في نشأة وتكوين وتطوّر مجتمع الإمارات بدءاً من القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين، نظراً لأن الإمارات تقف على جذور تاريخية راسخة تمتد إلى ما قبل التاريخ الميلادي، ولكن الروايات والمأثورات الشفاهية بتعبيره لا تسعف كثيراً في دراسة تلك الحقب البعيدة، بينما في التاريخ الحديث والمجتمع المعاصر سوف يتتبع نسقين مهمّين: أوّلهما تاريخ الأسر الحاكمة التي لعبت دوراً مهمّاً في أحداث الإمارات لفترة تمتدّ إلى نحو قرنين ونصف، وهي فترة يمكن رصدت من خلال الروايات الشفاهية والدراسات الأخرى المساندة لها. وثانيهما أن نشأة دولة الإمارات العربية المتحدّة في ديسمبر 1971م، والأحداث السياسية والاجتماعية التي مهّدت لها، تعطي الباحث فرصة نادرة لرصد وتسجيل ودراسة مرحلة مهمّة لأن صنّاع الأحداث مازالوا بيننا على قيد الحياة. وبذلك فإن العناية بالأنساب بالنسبة للبدوي تعني الجنسية، وسيفصّل في هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في فصله الخاص، ليتبعه من ثمّ بما أسماه «نوستالجيا البداوة»، أي في رغبة البعض بالعودة إلى أيامهم الأولى، فيستعيدون، مرة بالشعر ومرة بالقصّ، تلك الأيام الخوالي التي تمتاز بحميميتها وسحرها الخاصّين، والصحراء بعوالمها الفاتنة بالنسبة للبدوي. كانت كذلك بالنسبة للرحّالة الغربيين الذين صوّروا برومانسية الكثير من مفاتنها كمشهد الغروب أو مشهد البدوي وهو يمضي بقافلة جماله نحو الأفق. ويؤكّد من ثمّ أن هذه النظرة الصورة للعرب ولشبه الجزيرة العربية مناقضة إلى حدّ ما لتلك النظرة التي امتلأت بها السرديات الإمبريالية، وأخفّ في عدوانيتها. وإن لم تخل من التحامل أحياناً، وإلى ذلك فإنه سوف يستعرض الكثير من الرحلات التي قام بها الرحّالة الأوربيون ويحاجج في الوقت نفسه التفكير الاستشراقي نظرياً، معتمداً في ذلك على أطروحة إدوارد سعيد في الاستشراق، وفي الوقت نفسه سيتناول بموضوعية جهود الرحّالة والمستشرقين في جمع ونشر الشعر النبطي من مثل وليام غيفور وتشارلز داوتي، وتشارلز هوبير، وسوسين وغيرهم، منوّهاً إلى أهمية الآراء التي طرحوها في هذا السياق. وفي الختام، سوف يؤكّد المؤلّف أنه بمقدار ما في المنهجية الشفوية من شخصانية إلا أن أهميتها تأتي من الرواية ذاتها عن مجتمع ما في لحظة معيّنة، عن مجتمع كان الراوي ذاته جزءاً منه، وبالتالي فلا ذكريات لفرد يعيش بمفرده، كما أن الوثائق وحدها لا تكتب تاريخاً، ومن هنا يأتي سرّ اهتمام مراكز البحث والجامعات الأوروبية والأميركية بالتاريخ الشفاهي، وإحياء مصادر شفاهية قديمة والعناية بها وبما لديها، لأن الذاكرة الإنسانية ضعيفة مهما كانت قوية، ولذلك لابدّ من حفظ هذه الذاكرة كما تحفظ الوثائق والسجّلات، لأنها على الأقل، ذاكرة إنسانية ينبغي الحفاظ عليها ودراستها من ثمّ لتتموضع في مكانها المناسب. كتاب مهم في موضوعه وفي أطروحته الأساسية، وهو في الوقت نفسه بمثابة مدخل تأسيسيّ للدارسين والبحاثة الشباب من الأجيال الإماراتية الجديدة، وذلك بما يقدّمه من موضوعات مفتاحية ومراجع وكتب مهمّة رصدت تاريخ المنطقة.