وصف الكتاب:
استقطبت منطقة إمارات الساحل المهادن أو مايُعرف اليوم بدولة الإمارات العربية المتحدة، شأنها شأن أقطار الشرق الأخرى، العديد من الزائرين الأجانب الذين اختلفت أهدافهم ومقاصدهم (1) . شهدت هذه المنطقة منذ القرن الخامس عشر الميلادي توافد الرحالة والمغامرين والباحثين عن جديد ما، ومن حسن الحظ أن بعض هؤلاء، إن لم يكن أغلبهم، قد دوّنوا مشاهداتهم وملاحظاتهم وتحدثوا عن مهامهم ولقاءاتهم بعامة الناس وبالنخبة، ووصفوا الطبيعة ونمط العيش والمدن والقرى والصحراء والجبال والشواطئ وحياة الناس في الحضر والبادية . هذه الرحلات أصبحت اليوم كتباً لا غنى عنها للباحث في تاريخ المنطقة وشؤونها، وقد ترجم بعض هذه الكتب إلى العربية بينما بقي بعضها في لغاته الأصلية ينتظر من يقوم بترجمته، والحاجة تدعو إلى ترجمته ونشره في لغتنا . ومع ذلك فإن معظم ما كُتب ينطوي على معلومات مهمة لا تقدر بثمن ولانبالغ في القول إن جُل تاريخ المنطقة: الإمارات بل الخليج والجزيرة العربية، يعتمد على مادَونَه الأجانب عنّا . وكان لكتب الرحلات نصيب كبير في ذلك، وأياً كانت تحفظاتنا على بعض ما ورد في هذه الكتابات أو السياق الذي عالجت به موضوعاتها، إلا أننا لا نستطيع سوى الإقرار بالشكر لأولئك الرحالة، إذ لولا تلك المعلومات والبيانات، لضاع منا الكثير والكثير حيث لم ندوّن نحن ولا قومنا سوى أقل القليل من أحداث تلك القرون وشؤونها رغم أهميتها وخطورتها، وهي التي صنعت تاريخنا الذي نعيشه اليوم(2) . كانت منطقة ساحل عُمان من ضمن هذه الأقطار العربية التي كانت تتجه إليها الرحلات، وقد جاءها المئات من الرحالة منذ بدايات الغزو البرتغالي الذي اكتوت بنيرانه وتجرعت مرارته حتى الخمسينيات من القرن الماضي، جاءها رحّالة من البرتغال أثناء فترة احتلالهم وتمكنهم، ومنهم من جاء بعد طرد جيوشهم، وفي كلتا الحالتين وصفوا ما شاهدوا ولم تكن مشاعرهم واحدة في الحالتين ففي الأولى كانوا مبتهجين مفتخرين، وفي الثانية كانوا في حزن وألم وقد تُرجِم البعض مما كتبوه ومازال الأكثر والأهم في لغته . وجاءها أناس من الدنمارك وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وأمريكا وفي مقدمة هؤلاء كان الإنجليز وهم الأكثر عدداً على اختلاف مهنهم ومهماتهم . ولا أزعم لنفسي هنا القدرة على إحصاء كل الرحالة الذين زاروا الإمارات من الغربيين وتركوا وصفاً مكتوباً لما رأوه أو فعلوه في هذه القرون الخمسة فذلك فوق طاقتي، ولكني سأحاول أن أقدم بعض النماذج من تلك الكتابات التي تناولت مظاهر الحياة في الإمارات قديماً . شكّلت كتابات الرحالة ومذكراتهم جنساً أدبياً راقياً وممتعاً في آنٍ، إذ إنه لا يعكس الوضع الاجتماعي للأفراد والجماعات وحسب، وإنما يرصد الأوضاع الثقافية والسكانية والفكرية والحضارية السائدة أيضاً . فهو بهذا المعنى يؤرخ الأنثروبولوجيا الثقافية للمجتمعات وللحضارات السائدة لتلك البلدان التي زارها الرحالة . وتأسيساً على ذلك فلا غرو أن يعدّ هذا النوع من الأدب الوسيلة الأكثر قدرة على رصد مشاهدات الرحالة لمختلف جوانب الحياة والطبيعة وتوثيقها بالكلمة والوصف من خلال رؤية الرحالة لها، هذه الرؤية التي يفترض فيها الحياد نحو الظواهر حين وصفها، ولكنها غالباً ما جاءت مفعمة بمشاعر الرحالة، وهذا ما جعلها مؤثرة في أسلوبها وممتعة في تفاصيلها، كما أنها توثق المواقف والعادات والسلوكيات التي تبدو عادية لدى السكان المحليين في حين هي غاية في الأهمية في دراسة تطور هذه الأنماط الثقافية وكذلك في الدراسات المقارنة لعادات وقيم وتقاليد الشعوب وثقافاتها، وعلى هذا النحو يقدم الرحالة مادة علمية قيمة للدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية لمن سيأتون من بعدهم من الباحثين والدارسين(3) . إذا جئنا إلى منطقة الخليج والجزيرة العربية، فقليلة هي الدراسات التي تناولت بالدرس والتمحيص كتابات الرحالة الغربيين عن منطقة الخليج العربي خلال القرنين الماضيين، ونادرة تلك التي تناولت نظرة الرحالة إلى منطقة دولة الإمارات العربية المتحدة تحديداً، والتي كانت تُعرف قبل استقلالها عام 1971م بمسميات عدة أهمها الساحل المهادن، أو مشيخات أو إمارات الساحل المهادن، الساحل المتصالح، أو الساحل فقط، أو ساحل عُمان، كما عُرفت ظلماً وعدواناً بساحل القراصنة، وتلك التسميات هي تسميات وردت في الوثائق والمعاهدات والمخاطبات الكولونيالية الرسمية البريطانية . ومن الجدير بالذكر أن أول دخول للإنجليز إلى الخليج كان عن طريق البحر، وكان البحر والأمن البحري بالنسبة إلى شركة الهند الشرقية هاجساً دائماً ومصدر قلق تحولت معه السفن التجارية، وبالتدريج إلى سفن شبه عسكرية، وعسكرية كاملة في النهاية (1820) . وكان اتفاق الشاه عباس الكبير في (1622) مع الإنجليز على طرد البرتغاليين من الخليج بعد أن كانوا قد استقروا فيه على مدى مئة عام وتحكموا في سواحله وثرواته من ( اللؤلؤ) وكونوا لأنفسهم نقاطاً بحرية ومواقع استراتيجية من لشبونة إلى جوا في الهند، كما كان سقوط هرمز في فبراير/شباط 1622 بداية ارتقاء قوة بحرية أخرى على بقايا قوة سابقة ودخول قوة غربية استعمارية أخرى إلى الخليج من أجل السيطرة على الطرق البحرية وضمان أمن الإمبراطورية في الهند وتَحوّل تدريجي من سياسة الأمن البحري إلى التّحكّم الفعلي في أمور بلدان الخليج وعلى جانبيه(4) . وترجع أسباب هذه الندرة في الدراسات إلى جملة أسباب كما يذكر د .محمد الرميحي في ترجمته وتقديمه لمذكرات الطبيب المبشر س . ستانلي ج . ماليري منها: أولاً: إن المصادر التاريخية عن الخليج وعن ظروف معيشته وحياة أهله قليلة بل نادرة، وكان أحد المصادر الرئيسة هو ملفات المُعتمدين والقناصل الذين كانوا يمثّلون القوة المُهَيمنة في الخليج في القرن التاسع عشر، وحتى النصف الأول من القرن العشرين، وأقصد بها بريطانيا العظمى، وكان المصدر الثاني هو ماكَتَبه الرحالة، وأيضاً المبشرون الذين بدأوا يتوافدون إلى المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . هذه هي المصادر الغربية، ولم تكن هناك مصادر محلية يعتد بها غير النقل الشفاهي من فم الأجيال المحلية الذي تناقلته هذه الأجيال ثم يبهت ويتحول إلى شيء من الأسطورة المحلية، ولاتوجد طريقة علمية للتأكد منه وبيانه . وهناك في هذه المصادر الغربية العديدة في الحقيقة زخم هائل من الوصف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي قام به هؤلاء المبشرون خاصّة، وكانوا قد ألقوا برحالهم من البصرة شمال الخليج إلى مسقط في عُمان جنوباً وكانت الفكرة الرئيسة لهذا العمل هي تطويق مهد الإسلام (الجزيرة العربية) . كانت الفكرة ساذجة، حَسَب الرميحي، ولكنها تمحورت على إنشاء مبان لهذه الإرساليات تقوم بالتطبيب والتعليم والدعوة للدين المسيحي (التبشير) وقد نَصَح أمين الريحاني هذه الإرساليات وقتها كشاهد عيان على نشاطها، وقد زارها في عشرينيات القرن العشرين بقوله: لو اكتفت هذه الإرساليات بالتطبيب والتعليم لكانَ أفضل لها، لأن هؤلاء العرب الخليجيين لن يتركوا دينهم أبداً(5) . كتاباتهم حافلة بالطبع بوجهة النظر الغربية وبمقياس غربي بحت، لما كان يدور في مجتمعات الخليج في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن يظهر النفط وتتغير هذه المجتمعات في بعض مظاهرها من النقيض إلى النقيض، إضافة إلى التعصب وضآلة ثقافة بعضهم وفقر إطلاعهم على ثقافات جديدة عليهم، وهي كتابات كثيرة منشورة بالإنجليزية ولم يَرَ معظمها النور بالعربية(6) . ثانياً: قلة المعطيات الوثائقية المتوافرة عن منطقة الإمارات التي تتضمن وصفاً لأعمال الرحالة باستثناء بعض الأسماء المعروفة منهم كولفرد ثيسجر ورونالد كودري وأندرسن . ثالثاً: الاعتماد الكبير على المصادر البريطانية السياسية - وثائق مكتب حكومة الهند - فقلة من المؤرخين خرجوا عن نطاق الأرشيف البريطاني إلى وثائق المكتب العام والأرشيفات الأخرى كالأرشيف الألماني أو العثماني أو الفارسي أو الفرنسي لتوثيق الدراسات العلمية .