وصف الكتاب:
"في ليلة من ليالي الشتاء الطوال، أو بالأحرى في ليالي القوس التي تكون ليالية أطول الليالي في فصول السنة، لم تداعب مقلتي أصابع الكرى، فسجت في أفقِ وطفتُ في سماء الخيال اقرأ ما في صفحات كتب الكون من ألوان خطوب تتعاقب على حياة المرء في صورٍ ذات ضروب متلونة مثل تلون الحياة، فما دواء هذه الخطوب التي لو وقعت على الحبال لدكتها دكّاً، فبينما الإنسان يعيش أوائل الليل في رفاهية من حياته فإذا هي أواخر الليل تنعكس عليه إنعكاس الضدّ للضد فيظل في حزن عميق لا يعرف أين المخرج منه. فالأحداث تتلاحق في هذه الحياة كما يعقب الصباح الليل، ويعقب الليل الصباح، وبين الجديدين ألوانٌ قد تكون أقوى من الإنسان، ولكنّ الإنسان إذا فكر بعقله واستمدّ الحول من حول وقوّة ربه؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، فبهذا يستطيع أن يكون أقوى من هذه الأحداث وأقوى من الحياة عندما يركن إلى ركن ركين وحصنٍ لا تزعزعه العواصف ولا تدمره حوادث كما تدمر المدن، والركن العظيم هو الإيمان بالله والتسليم له، فعند ذلك تخضع له الأحداث، ويتغلب عليها بقدرة خالقه وقوته، فالأحداث تكمن في ثوانيه ودقائقه، فالإنسان الذي لا يلجأ إلى ركنِ ركين قد يضيق صدره بهذه الأحداث فيؤدي به إلى الإنتحار أو إلى الموت البطيء، أما الإنسان الذي يركن إلى ركنٍ ركين وثيق فلا تهزّه الأحداث الجسيمة المرّة به، في كلّ شيء، وتحاصره من كل ناحية من نواحي حياته، إن الذي يركن إلى هذا الركن يعيش سعيداً ولا يعبأ بهذه الخطوب والأرزاء، إن في الإيمان طمأنينة منجعة لكلّ خطبٍ وحدث... خرجت بك يا قارئي، عن فاتحة المقال عما مرّ بي في جوّ تلك الليلة الساهرة أو بالأحرى الليلة القلقة، ولكنني لا أعتبر هذا خروجاً عن صميم الحرف... الحرف التعبيري، كنت في تلك الليلة القلقة أفكر فيما مرّ بي من أزمة حدثٍ ألمّ بزوجي، فعشت على وهج ذلك الحدث في حياةٍ مضطربة وجوٍّ لاهب، تكاد الحياة تضيق عليّ برحبها، وسرعان ما لجأت إلى فاطر السموات والأرض، وفوّضت الأمر كله له؛ لأنه هو القادر والدافع والمانع لكل حدثٍ وملمّة، وتلوت بعض الآيات من كتابه الكريم المنزّل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فكأنما نزل على قلبي برداً وسلاماً، وضرعت لله خاشعاً لائذاً بحصنه المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول، فمن لجأ إليه وتوكل عليه فقد نجا من كِرَبِه ومن كل ملمّةٍ تُلِمُّ به وتمرّ في حياته... فإنني متوكلٌ عليه يا ربي وطالبٌ منك التفضل عليّ، وما حياتنا إلا تفضُّلٌ منك أن تمنَّ على زوجي السقيمة بالشفاء، وتجعل الصلاح في برئها وإعادتها لنا، يا من يحيي العظام وهي رميم، فإن الإنسان في هذه الحياة هو يشبه الزورق الصغير، في ثبج موجٍ تقذفه الأمواج وتعصف به الرياح، فلا يدرك ما يحيط به من ألوان هذه الخطوب التي تتدفق حوله كأمواج من قطع الليل ولا يبددها إلا ضوءٌ يرسل إليه من نفحات خالق السماوات والأرض خالق كل شيء، فعليك يا ربي توكلت وبك آمنت، اختم هذا الحرف القصير بهذه الآية الكريمة التي فيها كنزٌ من الإيمان: ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾... [سورة غافر: آية 44]. بقدر ما تحمله هذه الخاطرة الأدبية من معانٍ إيمانية، كذلك هي تحمل ذاك الحسّ الإيماني المرهف الذي يصل إلى القارئ بأسلوب السهل الممتنع... وما يخرج من القلب فهو يصل إلى القلب... وما يخرج عن اللسان... لا يتجاوز الآذان... وصاحب هذه الذاكرة هو مبدعٌ تحدث عنه جزئيات هذا الكتاب بما تحفل به من نصوص مثلث في ما جعبة ذاكرته من تأملات وإلهامات وإسترسالات ونصائح وأدبيات... كتابات ونصوص لا تقف على ناصية الحياة... لكنها تدخل في عمقها محدثة عن خوالج الإنسان... وعن تجاربه... وعن زبدة هذه التجارب... بالإضافة إلى ذكريات ربما لها دورها في الأحداث الإجتماعية والتاريخية والأدبية... وربما كان دورها المؤثر على الصعيد الإنساني... الشخصي لصاحب هذه النصوص. مقالات ونصوص تسير في إحتفالية الحياة... مع توقيع ممهور من إنسان تغلب وهو في مقبل عمره على مأساة فقد عينه... لكن الله منّ عليه ببصيرة تدفقت منها مؤلفات هي من الأهمية بمكان... كلاُّ في موضوعه... وبصيرة نافذة انبثق عنها عمل حرّ... وهو المحاماة، مستعملاً معارفه العلمية من المحاماة حسب القواعد الشرعية... كتب عنه كثيرون... وأشاد به القاصي والداني... وتبقى ذاكرة التاريخ هذه نافذة يطل منها القارئ على غيض من فيض ما هو مختزن في فكر وعقل وقلب ووجدان هذا الإنسان... في فلسفة الحياة.