وصف الكتاب:
من مجموعة " تأملات مازالت في طور التكوين" "حلم الأثير" بعد التدنس بالمجتمع الفاسد، يكون المرء شريكا مناوئا للخطيئة الكبري، محاطاً ومحاصرا بشياطين الأرض والجان. وقد تخطيت تلك التجربة عن جدارة فائقة في انغمار كياني كاملا في بؤر الانحطاط والمسوخ. تلعثمت عندما قال لي أبي: "عليك أن تتحلي بالفضيلة والخلق الدمث القويم". فوجدت نفسي في دائرة لا تسمح لي بالبقاء علي شيء صحيح، بل دوما تقلبه للنقيض المدقع. ففي سلسلة متراصة من القواعد والأخلاق والقيم المنصوصة تأخذ الشكل اليوتوبي المفارق أما واقعنا فيصبح شكلا هستيريا جامحا لا لجام له. ولم أكن علي يقين بما يحدث حولي من أشكال وضروب محيرة وشائكة.. ومهترئة.. أخذت حفنة من الأوراق كانت ملقاة في الجزء الخاص بها من مقالب القمامة واستحوذت علي أقلام من الكشك المنصوب عند ناصية شارعي القديم. وبدأت بالكتابة.. كتابة سيرة طفل بلغ من العمر أثني عشر عاما بخبرة رجل فاق الستين من عمره.. قبعت بالمكان الملهم الخاص بي الذي ينأي بعيداً عن العمران البشري والفوضي العارمة الطاغية علي كون من خلق الله. فقد كان عبارة عن ربوة في حضن الجبل ناتئة للداخل، وكأنها عش صغير لغراب يريد الحماية لصغاره، يحيطه من الأسفل عند الناحية اليمني بعض المزارع علي مسافة عشرات الياردات، ومن الناحية اليسري أرض منبسطة يملؤها الحصي الصغير والتراب الأصفر الناعم، كفناء كبير يصلح لبناء ملاعب لكرة القدم التي تستحوذ علي اهتمام الجميع، ويتقنها الكثير من الشباب الصغير عوضاً عن مراهقتهم المستفزة. أردت أن أكون المعجزة وأحظي بالاهتمام المستنير كي أكون حامل الحكمة والقيم المندثرة.. أن أعلم هؤلاء الجهلاء.. أن أكون صاحب الشكيمة والموعظة التي فنت مع الأيام الخوالي.. أنعم بفترات الشموخ والعزة وأكون الشريك الأعظم للمثال الأعلي.. للإنسانية المهداة من صاحب العزة والجلال.. أكون الأمل.. الرغبة.. الكيان البناء المنشود. فكتبت للمرة الأولي، ولم أكن أريد الكتابة. وأتقنتها بلا ممارسة، بل فقط من أجل الرغبة.. رغبة البوح والاسترضاء، عوضا عن الكبت والكتمان. ولم أعلم من أين جاءتني تلك الملكة؟! فلم أكن متعلما بالقدر الكافي ولا بالشخص المثقف عند المستوي المناسب. إنما كنت مشردا متسولا ضائعاً.. كنت في الطريق الغائر بلا عودة بلا هوية مسلوبا وضالا بلا مبدأ أو معرفة بل ممسوخاً ككلب حقير متسخ يرتكن إلي مقالب القمامة من أجل إيجاد شيء بفائدة أو طعام ما يملأ معدته.. فقابلت الرجل النقي كالعادة في منامي وأخذ يعنفني هذه المرة بدرجة قصوي. حتى أني عندما استيقظت شعرت بألم حاد يسري في جسدي، وكأن ذلك قد حدث في الواقع، ولم يكن في عقلي الباطن كما يقولون. فلم أعرف من أين هذا الرجل؟! ولم أره من قبل. لكن كانت هناك علاقة قوية تربطني به وتشعرني دوما بالتألف معه والحميمية الناعمة. وعندما أجلس بجواره كانت القشعريرة تنتابني والرجفان المريب يحاصرني وكانت تتوغلني الراحة والسكينة الأبديتان.. إلا أنه هذه المرة كان قاسيا ومضطرباً بشدة من أجلي لأني أرتكبت حماقة شنيعة عن غيرها من الحماقات السابقة والتي كان يؤنبني عليها فقط ويمنحني النصيحة بعدها فاستريح له وأتساير معه وأطيعه بكل ذرة صغيرة من كياني الكامل المتناسق. فلأول مرة تقوم أنا وأصدقائي بمحاصرة فتاة بالأسلحة البيضاء الصغيرة وتهديدها بالقتل، وتوجيهها إلي مكان ما ناء وتجريدها من ملابسها وأخذ جميع ما كانت تحويه معها من نقود وذهب. وبدأنا نتسلي بعيها وفتنتها تحت ضغط مباهج بدايات المراهقة وكم الفضول المستعصي بداخلنا. فرحنا نتلمس جسدها ونستنشقه مع صراخها وخوفها ورعبها. فازداد نشيجها ونحيبها حتى فقدت وعيها وسكنت الأرض الجرداء بعد محاولاتها الفاشلة للتملص منا والهروب، إلا أننا أقمنا الفخ جيداً. فانتصبت أعضاؤنا وسري بداخلنا إحساس منتش غريب مستعص علي الفهم ووجدنا أنفسنا نقبل وندغدغ ونضاجع ونهوي ونقذف أكثر من مرة ونفعل أشياء دون إرادتنا فننساق للشيء المجهول دون العلم به لمجرد الجذب والاشتهاء والاستمتاع. ورحنا نحلم ونعاود الحلم ونجاريه، ونفكر ونجوب مع الفكر لتكرارها أكثر وأكثر.. فمر علي أكثر من يوم ماكثا بخلوتي مع نواتي التي لا أعرف عددها ولا كيفية ظهورها، إلا أني مازلت قادراً علي الظهور بأشكال أفضل وأحلي، ومازلت أحلم بالمستحيل. لم أعرف ما هو التأمل؟! لكني زاولته كثيراً. وأظن أنني تعلمت كثيرا من ذلك الرجل الذي أخذ في الفترة الأخيرة يحاول القدوم لي في لحظات الحنو للبريق المألوف بداخلي، والذي دوماً يجذبني للانطواء لتلك الأية الكونية العظيمة الداعية للتأمل الحاد. فشرعت للكتابة والتعبير بتلك اللغة المرهفة الجميلة الزاخرة والناعمة، بفضل ذلك الرجل الذي وهبني تلك الملكة دون سابق إنذار. أكاد أتذكر يوم مولدي فلا أعرف كيف؟! إلا أني متيقن من أن مولدي كان حافلا بالمواقف الرنانة.. فأبي كان رجلا متبلداً غير عابئ لأي شيء، يعيش علي مقولة (عجلة الزمن دايرة) كأنه جسد بلا روح بلا إيمان بلا تعويل. مادة صلدة مكفهرة. وأمي كانت الفتاة المنتشية الولهانة الناعمة التي تحتاج دوما للإحاطة والاستحواذ والدفء، والعاشق اللذيذ الناعم. فكانت جميلة ولديها من مبارز فاتنة خلابة تجعلها تستحوذ علي عقل أي رجل. إلا أن القدر هو الذي أوقعها مع ذلك الرجل البليد في مشاعره ووجدانه. فكانت تعيسة وحزينة طوال السنتين اللتين قضتهما معه. فتلقي منه البرود والعزوف. وحملت من المرة الأولي والأخيرة معه. فعرفت أنه كثير الرزق، فلا يعمل عملا ثابتا ومع ذلك يكسب الكثير. نزل الطفل منها بسهولة حادة بعد أن استيقظت من نومها علي ألم قاس فيظهرها فتلقاه والده بعفوية وهدهده قليلا قبل أن يلقطه ثدي أمه، وجلب قطعة من القماش أحكمه بها. ورضع الطفل كثيرا حتى أن لبن أمه لم يكف فكانت تجلب له لبنا أخر من الصيدلية. إلا أن الطفلا لم يتقبل أي نوع أخر من اللبن سوي لبن أمه فقط، فبمجرد أن يحوي الطفل أحد نهديها بين راحتيه الصغيرتين المنمقتين، حتى يفيض لبناً من حيث لا يعلم. وبلغ السنة من عمره دون أن تشعر به أو بأي متاعب من قبله. وبلغت هي الأخرى الملل والتمرد. فتنازلت عن أمومتها الباردة وانقشعت عن ذلك الرجل المتبلد، صانع البأس والضغية وأوقعت في فخها رجلها المنشود من فحولة ومال وجاه وسلطة. بعد أن مارست معه الرذيلة حفنة من الوقت ساومته علي الزواج منها وحققت مرادها. مكث الطفل في وحدة قاسة ضائعاً بلا حب بلا أمان وكان الأب حزيناً علي فراق الزوجة والحبيبة فأخذ الألم ينخر عظامه المتهالكة فأجهش بالبكاء والصراخ، راح بضرب نفسه بالعصا، ويخبط جسده بالجدران ويأخذ نصل السكين ويشرح جسده بجنون جارف حتى علق جسده بحبل غليظ ملفوف حول عنقه. ومضي الطفل وتلك المأساة محفورة بعقله الناصع الفارغ، وصورة أبيه دائماً أمام عينيه لا تفارقه،وهو متدل أمامه عارياً تماما كأرجوحة مزدانة بخدوش هستيرية أنيقة باللون الأحمر القاني. ظل يمشي وحيداً مترنحاً كشخص سكير يحلم بالوصول للمأمن المطلوب الذي يريح فيه جسده. فقد وجد أشياء غريبة ذات أشكال متعددة ومتنوعة لم يلتق بها في عالمه السابق. فغض بصره عنها وراح يمعن في هؤلاء ذوي الأحجام الكبيرة جداً، ومع ذلك فهم يشبهونه كثيراً. وعقد النية علي أن يحاول الابتعاد عنهم، حتى لا يدهسوه. كما أن هناك بديهية تقول إن الأحجام تتعارض مع التواصل. وهؤلاء لا يمكن أن يتواصل معهم بأي شكل من الأشكال. وقد انحرف قليلا عن طريقه المتعرج صوب ركن ضيق شاحب علي شكل كوة ناتئة للداخل عن جدار سميك عاجي. فجلس واستراح وراح ينظر للخيالات والظلال التي تتمايل في الخارج جيئة وذهابا. وغلب عليه النوم فنام كثيرا كأنه غاب عن وعي حالي ننشده بعفوية جامحة، نحو وعي باطني خاص به يطل علي عالم يعشقه الأطفال الصغار يمرحون فيه مع ملائكة كرام. استيقظ.. وما الاستيقاظ سوي عودة مرة أخرى للعالم الغريب الهش الذي يراه بعينيه الصغيرتين. توجه علي مضض في حيرة متوجسة، وأكمل طريقه نحو المجهول، مناشداً للعدم، إرضاء لرغبته وفضوله الطفولي الجامح. تراءي له العالم علي أنه شاسع وبعيد عما يتمناه فانقشع عنه الوجه المألوف الجميل ذات الضحكة والابتسامة الصافية تهدهده وهو يستمتع بعرقيها اللبنيين تضمه لصدرها في نومه فيجتاحه أمان وراحة غير محدودين كان يقلب صوره الطفيفة في ذاكرته المحدودة، فيبحث عن وجه حميمي من تلك الوجوه النضرة الجمة، لكنه رآها تنز بالنور الباهت المائل إلي الشحوب وعيون تسكن بداخلها اللؤم وعدم الوفاء. فكان السراب يفرش أطيافه من حوله وبدأ الجو يخنق الحلقان بأتربته وغباره وصار الطفل كنملة صغيرة تاهت عن سريتها وتعرضت لجيوش سيدنا سليمان وأدركت أنه لا مفر من دهسها تحت الأقدام. فوجد نفسه فجأة في حديقة ميدان متوسطة الحجم تنجرف قليلاً ناحية صخرة كبيرة مغروسة في إحدي البقع الاستراتيجية للميدان وكأنها مزار سياحي أو مسلة حجرية قديمة تعود لعصور ما قبل التاريخ إلا أنها مع الوقت أصابها التعرية والأتربة وقلة الاهتمام. حيث أصبحت مكانا لتجمع المتسولين أو الشاحذين الذين يبحثون عن مكان ما للنوم والراحة مكان ملؤه أشلاء القمامة والروائح النتنة الكريهة. فلم يقترب منه أحد لا من العامة ولا من الشرطة ولا حتى من عمال النظافة. لمح الطفل وهو ينظر حوله بعينين مضطربتين حادتين من قبل فتاة كانت تجلس عند قمة الصخرة فنزلت مهرولة بتشنج هستيري حاد كانت ترتدي فستاناً قديماً وطويلا مقوسا عند صدرها وينزل مبرزاً خصرها وفخذيها ببراعة وإتقان. فكانت رشيقة ومزدانة بالحيوية والحلاوة البراقة التي تنز من عينيها الجميلتين وشفتيها المنمقتين فهرولت بخفة ناحية الطفل وتطاير منها شالها الممزق الذي يغطي شعرها. أمسكت بالطفل ورفعته إلي صدرها وأغرقته بقبلاتها الحانية الودودة وطوقته بأحضانها القوية الجياشة بحب وشوق جارف كانت تنتظره من سنين مضت في ظل حرمان وقسوة، وتعرية للغطاء، وتمزيق للجسد والقلب. بدأت تعلم الطفل وتكسبه مهارات كثيرة فقد كانت متعلمة ولم تكمل الثانوية العامة. فوقعت في غرام شخص كان يغازلها باستمرار عند خروجها من المدرسة. وفي إحدي المرات المعتادة عند جلوسهما بعد الظهر في أحد الأركان المغطاة عند شاطئ النيل وقع المحظور وهناك عذريتها بعفوية وتراض وحبلت منه وهربت من أهلها لكي يحتضنها في عشة في حجرة صغيرة بين ربوات القبور حيث الخلاء– وكان يأتي إليها ليأخذ ما تمليه عليه شهوته ويغادر في الحال. وكانت تسترزق من ري زرع القبور لتدفع إيجار الحجرة. وعندما أنجبت طفلا انقطع عنها، ولم تستطع توفير احتياجاته حتى وافته المنية. وظلت تناجي حالها من رصيف إلي رصيف، وممن عطف عليها إلي آخر، حتى وصلت لحال يرثي له فظنت أن طفلها قد عاد إليها، وسوف تعني به علي أقصي قدر تصل إليه. أخذت علي عاتقها مهمة التربية والتعليم، ولكن بصورة مبالغة وهستيرية إلي حد ما. فكانت تحميه معها في الحمام العمومي، وتعطي له ثديها ولكنه لم يجد لبنا، وتلعب معه لعباً طفوليا جميلاً، وأحياناً تنام معه عارية تحت الغطاء كعاشق لها، ورجل مفقود يمنحها الأمان المطمور والإحساس المغمور. فأصبحت بالنسبة له المعلمة والأم والحبيبة، لتعطيه كل شيء ولا تتقبل منه شيئاً سوي ابتسامة ونظرة صافية وضحكة حانية محاطة بقلب طيب أصيل جرفه الزمان الأليم بفعل كائن شرير. وشب الطفل رويداً رويداً، وأنهي عامه العاشر في حظن امرأة مجهولة لا يعرف لها صفحة صادقة. فوقتا يعرف فيه أنها أمه، ووقتا آخر يعرف فيه أنها عائلته في الحياة، ووقتا تاليا أنها تحبه. ولا شيء صادقا رآه حتى الأن في ذلك المكان الضيق، وتلك الأرض القاحلة المتربة، خانقة الصدور ومغشية العيون. شعر بعدم صدق نواياها، علي الرغم من عفه عليها وحمل جميلا كبيرا علي عاتقه المكسور عندما كانت تدفئه وتعطيه حناناً قد مضي وحل محله حرمان. فقد بدأت تستعمل معه الالتواء والنعومة والإغراء، فشعر بطوفان عسير قد أوي إليه من أجل درس طواه التراب، درس تعلمه من شيخ الجامع، وحفظه وكان يطبقه، درس الأخلاق والقيم الصلدة الصماء. فعلينا نحن الأطفال مستقبل أمم المحال التيقن بالخير المغمور لعودة أمم العظام. ويجب أن تكون التابعين للأولياء الصالحين الراقدين في تراب النعيم، فنمسك بالراية المنكوصة مخلصين لذي الجلال والإكرام. ونكون حقاً خير مثال يحتذي للوفاء والصدق التقي. هرب الطفل بعد ضمان المأوي، مقبلا تلك الفتاة عائلته وصاحبة الفضل في نشأته كذلك، تاركا لها حفنة نقود جلبها من عمله الأخير في ترحيل القمامة من صناديق الشوارع إلي المقالب الرئيسة، من ضمن أعمال كثيرة كان يخوضها مع مربيته كغسيل مراحيض المساجد والكنائس وأخذ بعض مال الصدقات، وعمال نظافة في الحدائق والكافتيريات، بجانب الحمامات العامة في الأحياء القديمة. مضي بطريقف متماوج ضالا يبحث عن مكنونه سائلا يريد إجابة مريحة وتنشله من محيط غامض متأجج بفوران حاد نتيجة خلل في المعادلة الحياتية.. يريد إجابة قاسية تجحمه وتبيده علي الفور بدلا من ألم وحيرة وتوجس.. فلا يتذكر شيئا سوي تلك العائلة التي لم تكن أمه الحقيقة، ومازالت تخادعه وتقيده. حاول التذكر في مسيرته الشاقة تلك، ولكن لا شيء. وجد الشوارع والحارات والأزقة متربة مهملة كمربيته العنقاء المهووسة، تقنع نفسها بشيء دون الحقيقة (تلك قاعدة عامة مشروطة) ومازال هو باحثا.. تائها.. منكوباً.. ها هو يسير بجوار فتي من مثل سنه، نحيف وعيناه مرهقتان، يغطي جسده بعض الندوب. كان يحكي بأنه يعمل عند سيدة همجية تقطن بجوار مقلب القمامة الرئيس الذي كان يحيط به ذلك الفتي الضال. وأن تلك السيدة كانت تضربه هو والآخرين من الفتيات والفتيات الضالين من أهاليهم، وتكوي جلودهم بالنار، وأحياناً تخدشهم في وجوههم وأذرعتهم بالمطواة الذهبية التي تملكها. فتكلف البعض من الناضجين القليلين بتوزيع المخدرات، ويمكن الانتقام من شخص ما مقابل حفنة المال من الطرف الأخر، فيشترط الصغار في سلب ونهب المحلات وجيوب الأشخاص وسط معركة حامية وأحياناً دامية. وتقوم الفتيات المراهقات فيما بين عامهن الحادي عشر والثالث عشر بجذب الشبان الصغار وأحياناً الرجال إلي أركان مضللة ليقوم الفتيان بضربهم وأخذ ما في جيوبهم وسياراتهم إن وجدت.. وغيرها من أعمال نصب واحتيال ومخدرات ودعارة.. فيوجد بعض الرجال ذوي السبعين عاماً يطلبون فتاة صغيرة، لتقوم بغسلهم وتدليكهم وتتعري أمامهم للمشاهدة فقط وللملامسة والملاطفة أحيانا أخرى.. وفي إحدي المرات جذبت فتاة ذلك الفتي الأسمر الموسوم بندبة كبيرة في جبهته لخنها المطمور في جبل القمامة، دعته للمجالسة معها. فتعرت أمامه رويداً، حتى أطلقت العنان لجسد فاتن في مرحلة التكوين للتلوي والإثارة قبالته. فقد كان شعر عانتها مازال ينبت للتو بضراوة وإقدام وكانا نهداها كحبتي برتقال صافيتين منعشتين. وظل الفتي متصلبا ساذجاً ترتعش أوصاله علي محك من الإثارة، حتى جذبته من يده لتلامسا صديقيها الودودين المتشبشين بصدرها، وجعلته يلعق فرجها بإحكام لتصب عليه قطرة من البودرة البيضاء فيعلقها بسلاسة. وتعود علي تلك اللعبة وأدمنها بعنف حتى أنه كان السباق فيطلبها والتوسل لها لتمنحها إليه. هربا معا ليتخلص كل منهما من مذلته وقلة حيلته.. راحا يتجاوزان الأوكار والمخابئ والسفوح، فينضم إليهما أطفال شتي من كل صوب. فيبدءون بحثهما عن مخبأ خاص يجمعهم. وأخذ يتالم صاحب لعق البودرة البيضاء، وبنتابه نشر حاد في جسده وصداع مريب في رأسه. فلم يستطع أن يتحمل أكثر من ذلك وأصابته نوبة هستيرية تدفعة يميناً ويساراً، فيهجم علي تلك الفتاة ثم تلك، مترنحا، متألما، ومذعورا من مجهول بدأ امامه. شخص ضعيف يحاول التملك فلا يستطيع حيوان أليف يحلم بالتوحش فلا يقدر. ظل أسير الألم والمجهول والأخرون لا يملكون شيئا سوي المشاهدة والذهول حتى انجرف بعيدا فتصطدم به سيارة ليندفع بقوة للأمام كطلقة نارية تسكن الأرض وسط بركة من الدماء. ظلت تلك الصورة تراود الطفل الضال الذي لا يعرف هويته حتى الأن فمربيته كانت تناديه دوماً بطفلي أو حبيبي فكان صورة صديقه وسط الدماء قد شاهدها من قبل عدة مرات، وكانت الوحيدة المعلقة في ذاكرته فأيامه السابقة عليها طواها النسيان بلا رجعة، بإرادته وليست رغماً عنه فهو لم يعرف الرضا حتى الأن وكان يود الاعتناء به أكثر من ذلك من قبل ذلك المكان الفسيح الذي يسمونه العالم. فما زال يبحث عن مأوي والشعور بالأمان والراحة. إلا أنه تيقن في الحال أن مصيره يحتم عليه الشعور باليأس والمجهول المريب الجاحد. فكل ما كان يأمله الآن هو أن يستريح، إلا أن مراده كان في مهب الريح. فبعد أن عثروا علي الوكر الجديد الخاص بنا نحن الصغار الضالين، دون مذلة وعنف من قبل متحكم متكبر. وقد كان عبارة عن منطقة مهجورة مغطاة من الجانب الأمامي بمصنع كبير للأسمنت، أما في الخلف فقد كانت هناك بركة راكدة وسط كم هائل من الأشجار المقطوعة وبعدها بميلين تظهر الأحجار الصخرية الضخمة وسط الرمال البيضاء. بدأت الأعمال تتوالي بكثرة جامحة وجرفتنا العاصفة بعيداً جداص عما كنا نشتهيه. كنا كأطفال يمرحون يحاولون اللعب علي هؤلاء البشر السفهاء والضحك علي تلك الدنيا الذبولة، جاهلين بالحقيقة، تائهين عن المبدأ والمرسي.. كنا كأشقياء تعساء يبحثون عن الرفاهية والأمان سواسية كرام لا أحد يخادع الأخر متشاركين متحابين متناغمين ومتقاسمين. أسرة واحدة وكبيرة يعيشون برزق يوم واحد والأمر بينهم شوري عقولهم صافية ناضجة بعد غسلها برحيق الرغبة في التغيير والتعبير عن النفس الطموحة. فكنا نبدع أشكالا للتأمر والمؤامرة، فنبيح لأنفسنا الاستباحة.. استباحة أشياء وأوهام يرفضها المجتمع.. تؤذي عاشقين وعاشقات تحت ضوء القمر في الأماكن العامة وفي الأركان الأربحية.. نتحرش بفتيات يعطين أنفسهن حق التظاهروالتحلي وأحياناً نمزق ملابسهن ليكن موضع سخرية أمام الآخرين.. نستقطب الأماكن والفنادق والملاهي الفخمة الثمينة لتقوم بخطف شنط السيدات ذوات الأريج الفاخر المتسورد ونزع جواكيت بدل الرجال المتهندمين والمتذيلين.. أقتناء بعض الأشياء من السيارات الفاخرة من خلال التسلل للمواقف الخاصة المتميزة. اقتناء احتياجات متعددة من فاكهة وحلويات وخضروات ومخبوزات من متخصصين كبار.. وغيرها من إبداعات لا تعد ولا تحصي من عباقرة صغار طامحين متطلعين للمحال المكبوت. بدأت رؤياي تظهر مع بدء أعمالنا تلك فعلي الرغم من استمتاعي ومرونتي ومرحي المتجسدين بداخلي، إلا أن عقلي الباطني كان يوبخني ويستهزئ بي. فيظهر ذلك الرجل بملابسه البيضاء ليحكي لي ويعرفني بنفسي منذ مولدي دون أن يعرفني بنفسه،والأغرب أنني لم أسأله حتى الأن. فقررت الكتابة علي طريقة حكيه فأدرك نيتي وأكسبني مهارة الكتابة. فانكشف لي هداي وانعزلت وتبينت حقائق ومعاني مطمورة في قلب أيام سافرة فعقدت النية علي المغامرة والتحقق من أجل شيء أغلي وأعز من كل الأشياء.. سر الحياة وسر وجودنا وسر موضعنا في أكثر من حال وفي بقعة معينة بالتحديد.. أشياء كثيرة ومعقدة تداعب عقولنا النابتة والبادئة في طور التكوين. بدأت المرحلة الأخيرة وهي أن أعمل علي اهتاء الصغار الآخرين الذين تمادوا وتماديت معهم في اللعب بالخطأ والخطأ الفادح. فنزلت من عزلتي وتوجهت للمخبأ الموهوم حيث كان الصغار يتقاسمون تركة اليوم من طعام وحفنة مال صغيرة ليصبح بهم الفتي الصبوح صاحب السر المزعوم والحلم الجميل، منادياً بالحق الجليل، محاولا إقناعهم بالصواب المنصوص في كتاب الله الكريم. أخذوا يتعجبون من ظهوري مرة أخرى بعد فترة غياب دامت أياما عدة توقعوا فيها موتي أو سجني ويستنكرون تغير حالي وما كنت ألقنه لهم. بدا لهم كل شيء علي أنه محال ووهم عظيم. فشعروا بأن ذلك الفتي قد جن عقله أو أصابه مكروه. وعندما حاولوا ترويضه وكسبه لصفهم مرة أخرى اندفع فيهم بالصياح والصراخ، وقذف المال الذي أعطوه إياه للتو. فغضبوا ودفعوه عنهم بقوة حتى اصطدم بالأرض. فبدأ يتكلم مرة أخرى بلغة مختلفة عنهم تماما، كأنه شخص مختلف لم يعرفوه من قبل فاشمأزوا منه وبدأ يثير طغيانهم فركلوه وصفعوه حتى شعروا بدمائه علي أيديهم. فأثار ذلك غريزتهم فزادوه ضربا أكثر وأكثر، حتي انتقض جسده بقوة وظل مستكيناً فوق التراب الوابل المقحور. وعيناه مفتوحتان متسعتان كأن فيهما بوادر حلم مأثور.