وصف الكتاب:
الحمد لله وحده أهل الثناء والحمد، المتفضل على عباده بالآلاء والنعم فألبسهم لباس الصحة والعافية، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده المرسل رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد؛ فمما لا شكّ فيه أن صحّة الإنسان وسلامتَه الجَسديّة هي رأس ماله، فهو حريص منذ أن خُلِق على سلامتِه والاعتناء بها والسّعيِ في المحافظة عليها. مما جعل حق السّلامة الجَسدِيّة والمحافظَة على الصّحة مُكرّسًا عبر الأزمِنة والعصور، حتى أصبح حقًا دُستوريًا منصوص عليه في غالبية أنظمة ودساتير الدول المعاصرة. ولمّا كانت حِكمَة الله تعالى البالِغَة تَقتَضي أن يَعتَري هذه الصّحة ما يَعتَرِيها من العَطَل والضّعف والوَهَن عن طريق الأمراض والأوجاع والآلام، فقد أمرهم بالسّعي في عِلاجِها وصِيّانَتِها والقضاء على ما أمكَن من الأمراض والأسْقام. فشَرع لهم التداوي والمُعالجة عند أهل الخِبرة من الأطبّاء والجرّاحين والمُخْتَصّين وغيرهُم من أهل الطّب. وإذا كانت مهنة الطّب من بين المهَن النّبيلَة الشّرِيفة، إلا أنها تنطَوي على كثير من المآخِذ والصُّعوبات والعَقبات أثناء القيّام بها، ويَكفي بما يَصدُر من أخطاءٍ طبيّة مُختلِفة ومُتَنوّعة كخير دليلٍ على ذلك. مما يَستَـتْبِع وينتُج عنه مسؤولية الطبيب عن هذه الأخطاء المِهنيّة الصّادرة منه. والمسؤوليّة في معناها العام هي المُؤَاخَذَة، "فهي حالة الشخص الذي ارتَكَب أمرًا يَسْتَوجِب المُـؤَاخَذة"، وهي بهذا المفهوم تختلف باختلاف أسبابِها ونتائِجِها. فقد تكون مسؤوليّة أدبِيَّة ناتِجَة عن مُخالَفة قاعـِدة من قواعـِد الأخلاق، ذلك أنّ معيارها هو الخير والشّر. وتكون في حق الأطبّاء بنوعَيها: الإداريّة والتي يتعَرّض لها الطّبيب الذي يعمَل لدى الحكومة أو الهيئات التّابِعة لها (وزارة الصّحة، مستشفى، عيّادة،...) حيث تُمكِّـن السُـلُطات التَأدِيـبـيّة المُخـتَـصّة من تأديب الأطبّاء عن أخطائِهِـم التي ارتَكبوها، وبالتالي توقِيع الجَزاءات التأدِيبيّة المنصوص عليها في هذا الشّأن عليهم. أو النّقابيّة والتي تُخَوّل للنّقابة حق النّظر في أمرِ الأطبّاء المُرتَكِبون للأخطاء الطّبيّة وتَوقيع الجزاءات التي يَتَضمّنُها قانون النقابة والتي تَتلاءم مع صِفة الأطبّاء النقابيّة. وقد تكون مسؤوليّة الطبيب جِنائيّة: إذا كان فِعل الطّبيب يُشكِّل جريمة كالقتل أو الإجهاض أو الجُرح أو الإصابَة... سواء أكانت عمديّة أم من قَبيلِ الخطأ الذي يـتّـَخـِذ أكـثـر من صورة كالإهْـمال والرُّعُـونَة وعَـدم الاحتِراز، أو عـدم مُـراعـاة القوانين واللوائح والأنظِمة، فهُنا تقُوم مسؤوليّة الطّبيب الجِنائيّة ويكون مُعَرّضًا للعقوبة الجِنائيّة المُناسِبة. وقد تكون مسؤوليّة الطبيب مدنيّة ــ وهذا هو موضوع بحثِنا ــ؛ والتي تتمثّل في تعويض المريض المضرور عمّا حلّ به من أضرار ماديّة أو أدبيّة بسبب الخطأ الطّبي الصّادر من الطّبيب. والدعوى المدنيّة التي يرفَعها المريض المضرور أو أقارِبِه هي وسيلة للحصول على التعويض. ولمّا كانت مسؤولية الطّبيب المدنيّة من الأهميّة بما كان، ذلك أن الأمر يتعلّق هنا بطبيب يُمارِس مهنَةً من أنبَلِ المِهن، ويحتاج للقِيّام بعمله كاملاً إلى قَدرٍ كبير من الثِّقَة والحرّيَة والاطمئنان من جهة. ومن جهة ثانية أن الأمر يتَعلّق بحياة مريض أو سلامَتِه الجَسديّة، فهو يضع حياته وسلامته الجَسديّة التي هي أثْمَن ما يملك، ومن أثمَن القيّم التي يحرِص المجتمع على حمايَتها لاعتبَارها من النّظام العام.