وصف الكتاب:
يشهد العالم الحديث ثورة هائلة في التقدم العلمي بسائر صوره وأشكاله، والتي هي بلا أدنى شك ذات تأثير على مختلف نواحي ومجالات الحياة وخصوصاً الاقتصادية والصناعية منها، وقد نتج عن ذلك إشكالات مرتبطة بالنشاطات المتعددة لأنماط الحياة للدول والأفراد، الأمر الذي استدعى وجود أنظمة قانونية لتنظيم هذه الإشكالات وضبطها بطريقة ممنهجة تحكمها الأسس الشرعية وقواعد العدالة. وقد أدى نمو الاقتصاد العالمي إلى تنافس شديد بين مصالح أطراف متعددة، نتج عنه استحداث أنماط خاصة في ممارسة التجارة لدى تلك الأطراف، مما استلزم إيجاد صيغ ووسائل تهدف إلى المحافظة على نشاطها التجاري وسمعتها من خلال بذل أقصى درجات الحماية والشفافية، الأمر الذي انعكس على الأنظمة القانونية للدول لتبني أساليب حماية قانونية لهذه التطورات، واعتمدت هذه الدول على نظام الملكية الفكرية كأساس لهذه الحماية. وتعتبر الأسرار التجارية إحدى حقوق الملكية الفكرية التي نشأت وتطورت نظراً لأهميتها ابتداءً من كونها معلومة أساسية في إنشاء مشروع تجاري مروراً بالمعرفة الفنية ووصولاً إلى مفهومها الواسع والشامل الذي رسمته التشريعات في الآونة الأخيرة، وقد ازدادت قيمة الأسرار التجارية مع زيادة التنافس بين القطاعات الصناعية والتجارية وزيادة التعاملات المتداولة بين المشروعات التجارية، وقد أدت هذه الزيادة إلى اختراقات واعتداءات على الأسرار التجارية لتلك المشاريع في ظل عدم وجود استقرار قانوني وقضائي يعنى بوضع الحلول للإشكالات التي تثيرها الأسرار التجارية. انطلاقاً من ذلك تعالت الأصوات التي نادت بضرورة تنظيم هذه المسائل سواء على الصعيد الدولي أو على الصعيد الداخلي وأصبحت آلية حماية الملكية الفكرية ومن ضمنها الأسرار التجارية أمراً ملحاً. وكانت البداية عام 1883 عندما تم إبرام اتفاقية باريس لحماية حقوق الملكية الصناعية والتجارية ومن ثم اتفاقية (تريبس) المتعلقة بالجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية، وقد تضمنت كلتا الاتفاقيتين إلزام جميع الدول الأعضاء فيها على تضمين القواعد والمبادئ الخاصة بحماية الملكية الفكرية في تشريعاتها الوطنية، وأوجبت على الدول إقرار آليات تشريعية لحماية حقوق الملكية الفكرية على المستويين المدني والجزائي. وقد كان للحماية المدنية للأسرار التجارية النصيب الأكبر في المعالجة القانونية، وتعددت وسائل الحماية الحديثة للأسرار التجارية، وكثرت الدراسات الفقهية والتشريعية التي تعمقت في مسألة الحماية المدنية للأسرار التجارية، إلا أننا وجدنا ضعفاً ونقصاً واضحين في دراسة موضوع الحماية الجزائية سواء من الناحية الفقهية أو حتى التشريعية. ونظراً للأهمية والخطورة الناتجة عن الاعتداء على السر التجاري بكافة صورها وأشكالها، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الاستقرار المالي والاقتصادي للمشاريع التجارية المعتدى عليها، وما يشكله ذلك من خطورة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للدولة كأثر ناتج عن الاعتداء على السر التجاري والمنشأة التجارية المالكة له، فكان لا بد من إلقاء الضوء على بعض الإشكاليات الجوهرية المتعلقة بالحماية الجزائية للأسرار التجارية.