وصف الكتاب:
إن حظر مطلق الكذب قاعدة خلقية لا قانونية، والقاعدة أن القانون لا يعاقب على مطلق الكذب في ذاته، فالمشرع لا يتدخل بالتجريم لحماية كل مصلحة اجتماعية، أو كل خلق اجتماعي، وإنما يتوقف ذلك على مدى المساس بالمصالح الأساسية لبقاء المجتمع واستقراره، ومتى تم تحديد المصلحة محل الحماية الجنائية أمكن حينئذ تحديد الأفعال التي تندرج تحت النص التجريمي والتي تتصف بعدم المشروعية لاعتدائها على المصلحة المحمية، كما أن استخلاص المصلحة القانونية له أهمية باعتبارها المعيار الذي يمكن من خلاله تجميع الجرائم التي تهدف إلى حماية مصلحة واحدة من جوانبها المختلفة، وبالتالي تحديد الأركان المشتركة في الجرائم التي تشكل اعتداء على مصلحة قانونية واحدة، وبيان الحد الفاصل بين جريمة التزوير وبين الكذب المكتوب الذي لا يعد تزويراً وبالتالي لا يستوجب عقاباً مسألة لا تخلو من الصعوبة، والتي سنحاول من خلال رسالتنا تبديد غوامض هذا الإشكال. وقد نص قانون العقوبات الأردني على جرائم التزوير في المواد من (260 إلى 272) من الفصل الثاني من الباب الخامس منه تحت عنوان " الجرائم المخلة بالثقة العامة"، في حين تناول جرائم تقليد ختم الدولة والعلامات الرسمية والبنكنوت والطوابع في (المواد 236 إلى 259) من الفصل الأول من ذات الباب، وهذا يعني أن من بين المصالح القانونية التي حماها المشرع بأكثر من نص قانوني هي الثقة العامة، تلك الثقة التي يضعها المجتمع في مختلف المظاهر الضرورية لاستقرار العلاقات والروابط الاجتماعية، وهذه الثقة لازمة لضمان سلامة وصحة هذه المظاهر وصدق ما تحويه من أعمال، ولهذا السبب تعتبر الثقة العامة علة التجريم أو حكمته في الجرائم التي تقع على هذه الثقة باعتبارها المصلحة التي يستهدف المشرع حمايتها، بغض النظر عن هدف مرتكب الكذب، وسواء تحقق هذا الهدف أم لا. على أنه إذا كانت صور الاعتداء على الثقة العامة يجمع بينها وحدة الوسيلة أو الأسلوب الذي ترتكب به، وتقوم على الكذب وتغيير الحقيقة بصفة عامة، إلا أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام تبعاً لارتكابها وذلك بالقول أو الفعل أو الكتابة، ويدخل في القسم الأول شهادة الزور واليمين الكاذبة، أما القسم الثاني فيدخل فيها تقليد ختم الدولة والعلامات الرسمية والبنكنوت والطوابع، أما القسم الثالث فتشمل التزوير في المحررات. وإذا كانت الثقة العامة هي المصلحة المحمية بالعقاب على التزوير الذي يشكل اعتداء عليها، فإنه لا بد من بيان المحل المادي الذي يرد عليه التزوير وبيان طرقة، وبمطالعة نصوص قانون العقوبات الأردني نجد أن المشرع الاردني قد عرف التزوير في المحررات في المادة 260 من قانون العقوبات، وبين أن المحرر هو موضوع التزوير، فهو موطن الحماية التي يقررها القانون بالعقاب على التزوير، ذلك أن فحواه هو الحقيقة التي يريد حمايتها، وهو الموضوع الذي ينصب عليه فعل تغيير الحقيقة بإحدى طرقه التي حددها القانون، إذ إنه وحرصاً من المشرع على وضع الحدود المعقولة للتزوير التي تقتضيها المصلحة الاجتماعية، فقد حدد طرق التزوير على سبيل الحصر في المادتين 262 و263 من ذات القانون، وهذا يعني انه لا تقوم جريمة التزوير إلا إذا وقع تغيير الحقيقة باحدى الطرق المنصوص عليها قانوناً، سواء وقع التزوير في المحررات العادية أم في المحررات الرسمية، كما أن التزوير قد يكون مادياً أو معنوياً، لذا كان لزاماً علينا تناول البنيان القانوني لجريمة التزوير للتعرف على طبيعة هذه الجريمة وبيان أركانها، وتمييزها عن الجرائم التي قد تشتبه بها، كتلك الجرائم التي تقوم على أساس تغيير الحقيقة بالقول أو الفعل. أما الضرر في جريمة التزوير ــ وهو جوهر بحثنا ــ فقد أثار جدلاً كبيراً في الفقه، وهو من الأفكار الغامضة في قانون العقوبات، ومن الصعب تحديد مفهوم الضرر، ويرجع ذلك إلى الخلط الشائع بين فكرة النتيجة والضرر، وفي إطار الحديث عن النتيجة الجرمية فإنه يمكن التمييز بين مفهومين؛ أحدهما تصور النتيجة الجرمية على أنها حالة واقعية، وثانيهما تبرزها على أنها حقيقة قانونية، لذا فإنه يتعين علينا تحديد العلاقة بين الضرر والنتيجة مع الإشارة إلى موضع الضرر في قانون العقوبات. وإذا استعرضنا نصوص التجريم في هذا المجال نجد أنها لا تحمي الحقيقة لذاتها؛ وإنما لما ينجم عن تغييرها من ضرر؛ وذلك حتى لا يمتد القانون بالعقاب إلى مجرد الكذب العادي كما أسلفنا القول، وتحديد الضرر يثير مشكلة جوهرية حول موضعه في النموذج القانوني للجريمة، فإذا كانت صور التزوير غير معاقب عليها إلا إذا ترتب عليها ضرر، إلا أنه ومع ذلك فقد اختلفت الآراء بشأن تحديد التكييف القانوني لهذا الضرر، هل هو ركن قائم بذاته في الجريمة، أم عنصر في ركنها المادي، أي الأثر المترتب على الفعل الذي تقوم به الجريمة، أم أنه شرط عقاب على هذه الجريمة، أم أن الضرر عنصر في القصد الخاص في جريمة التزوير، وبالإضافة لصعوبة تحديد موضع الضرر فإنه متنوع من حيث قوته، فالضرر قد يكون حقيقياً، وقد يكون محتمل الوقوع، وقد يتوافر الضرر وقد لا يتوافر نهائياً. أضف إلى ذلك فإن للضرر في جريمة التزوير مفهوم مميز عن الضرر بمفهومه في القانون المدني، فقانون العقوبات لا يقتصر على سن الجزاء على الإخلال بالالتزامات التي يرتبها القانون المدني بل يخلق هو أيضاً التزامات ويحدد مفهومها، فكل من القانونيين مستقل عن الآخر ولكل منهما مفهومه الخاص عن الضرر، فقانون العقوبات فرع من فروع القانون العام وهو يعنى بالضرر الذي تصاب به المصلحة الاجتماعية، ويقرر تبعاً لذلك العقوبة المناسبة، متى بلغ الضرر درجة معينة من الخطورة، تستشف من نصوص التحريم ذاتها، بينما يرعى القانون المدني بوصفه فرعاً من فروع القانون الخاص المصالح الفردية ويركز اهتمامه على الضرر الذي ينال منها إلا أنها قد تتعدد وتتنوع المسؤولية المدنية، أضف إلى ذلك فإن الضرر الفردي الذي ينجم عن ايذاء المصلحة المحمية جنائياً تصيب المجني عليه فقط، في حين أن من الممكن في القانون المدني أن تمتد إلى ورثة المضرور والواقع أن العقاب على التزوير يهدف إلى منع ضرر مزدوج، أما الأول فهو ضرر ثابت يتضمن اعتداء مباشراً على الثقة العامة، وهو أساس قانوني للجرائم، ويتطابق مع النتيجة القانونية، أما الثاني، فهو ضرر متغير، وهو الضرر الواقعي، ويتضمن اعتداء غير مباشر، يصيب المصالح المختلفة للدولة أو الفرد، وبالاستناد إليه يمكن تمييز الضرر المادي أو المعنوي، والضرر الفردي أو الاجتماعي، وحول هذه الصور من الضرر تثار كل الصعوبات النظرية والعملية التي تثيرها فكرة الضرر في تزوير المحررات؛ لذا فإننا سنفرد الفصل الأول من هذه الرسالة لبحث ذاتية الضرر في جريمة التزوير. وبسبب الخلاف حول مفهوم الضررفقد ثار الخلاف حول بعض الموضوعات بشأن اعتبارها تزويراً؛ ومن أهمها الصورية في المحررات، فالصورية هي كل تغيير للحقيقة بالاتفاق بين المتعاقدين، يراد به الإيهام بوجود عقد لا وجود له، فجوهر الصورية هو التعارض بين ما اتجهت اليه إرادة أطراف العقد، وما أظهراه للغير، وبالتالي فإن التساؤل الذي يثور في هذا الصدد هو هل يعد هذا التغيير تزويراً يعاقب عليه القانون؟