وصف الكتاب:
يعد الإنسان كائناً اجتماعياً بطبعه، لا يستطيع العيش بمعزل عن الجماعة، إذ إنه بمفرده لا يمكنه أن يفي كل حاجياته. فعيش الفرد في جماعة يستتبع دخوله مع غيره في معاملات، وبذلك تقوم بينه وبينهم علاقات، ومن أجل تنظيم تلك العلاقات برزت الحاجة إلى القانون، باعتباره الأداة التي تنظم تلك العلاقات، فعن طريقه يتم التوفيق بين المصالح المتعارضة. وبما أن مصالح وظروف الأفراد تختلف من مجتمع إلى آخر، فإنه من الطبيعي أن تختلف القواعد القانونية السارية في مجتمع معين عن تلك المطبقة في مجتمع آخر. والاختلاف بين قوانين الدول المختلفة ما كنا لنحس به لولا سهولة انتقال الأشخاص والأموال عبر الحدود من دولة إلى أخرى. بمعنى أن الدول أجبرت في الوقت الحاضر على التخفيف من التمسك من مبدأ إقليمية قوانينها، وأضحت تسمح لمحاكمها بتطبيق قوانين دول أجنبية، فلم يعد تطبيق القوانين الأجنبية فيه مساس بسيادة الدول. ويدعى الاختلاف بين القواعد المطبقة على الجماعات داخل المجتمعات المختلفة، بالتنازع الدولي للقوانين. ولا يقصد هنا بالتنازع بين القوانين التعارك فيما بينها، ليظفر أحدهم بحكم العلاقة القانونية محل النزاع، وإنما يقصد به المفاضلة بين القوانين المختلفة واختيار أنسبها لحكم العلاقة القانونية. وهذه المفاضلة يجريها المشرع عند صنع قاعدة التنازع مراعياً اختيار القانون الذي يرتبط بالعنصر الأساسي لتلك القاعدة، وقد يجريها أيضاً القاضي عندما يكون بصدد نزاع يتمسك أحد الخصوم بتطبيق قاعدة قانونية في دولة معينة، ويتمسك الخصم الآخر بتطبيق قاعدة قانونية في دولة مغايرة، بينما يتمسك القاضي بتطبيق القانون الذي تحدده قاعدة التنازع في دولته. ومن أجل إثبات أن التنازع الدولي للقوانين ليس تنازعاً بين سيادات الدول نضرب المثال التالي: لو أن إنجليزياً مقيماً في الأردن وأراد أن يشتري منزلاً في إيطاليا، فإن القاضي الأردني يكون متردداً في إخضاع أهلية الإنجليزي للقانون الإنجليزي أو للقانون الإيطالي أكثر من إخضاعها للقانون الأردني، وعليه فإن التنازع هنا هو تنازع بين الحلول المحتملة وليس تنازعاً بين الدول كدول، إذ إن كل من إنجلترا وإيطاليا غير مكترثة بمناقشة أمر هو في الأساس قضية أردنية مطروحة أمام القضاء الأردني. ولفض ذلك التنازع أظهر التاريخ عدة طرق، الطريقة الأولى تتمثل في حل التنازع من خلال الانطلاق من القانون ذاته لغاية تحديد نطاق تطبيقه، وهذه الطريقة يتم إعمالها بالنظر إلى موضوع الحال (أموال، شكل، تصرفات، أشخاص) وآثاره. فمثلاً العقود يحكمها مكان إبرامها، ويحكم العمل غير المشروع مكان وقوعه. والطريقة الثانية يعبر عنها بإقليمية القوانين، بمعنى أن قانون دولة معينة يطبق على إقليمها، وهذا الواقع غير مطلق وإنما يقيد ببعض الاستثناءات، مثل أن يحكم موطن الشخص حالته المدنية، أو يسمح بتطبيق القانون الأجنبي بالاستناد لمبدأ المجاملة الدولية. والطريقة الثالثة تتلخص بفكر الفقيه الإيطالي مانشيني الذي يرى أن الفرد لا يخضع إلا لقانون الدولة التي ينتمي إليها بجنسيته أينما كان. أما الطريقة الأخيرة فمضمونها تطبيق قانون الدولة الذي ترتبط به العلاقة القانونية أكثر من غيره، وهذا ما يسمى بمنهج قاعدة التنازع( ) الذي عن طريقه يتم اختيار القانون الواجب التطبيق على النزاع من خلال إعمال ضابط التنازع، ففي مثالنا السابق فإن القانون الذي يحكم أهلية الإنجليزي المقيم في الأردن هو قانون جنسيته أي القانون الإنجليزي. ولا جدال في أن منهج قاعدة التنازع يعتبر من أهم المناهج التي ساهمت في حل مشكلة تنازع القوانين، لكن هذا المنهج ليس هو المنهج الوحيد لحل مشكلة التنازع الدولي للقوانين، وإنما يوجد هناك مناهج أخرى كمنهج قوانين البوليس أو منهج القواعد ذات التطبيق الضروري ومنهج القواعد المادية ساهمت أيضاً بدورها في حل تلك المشكلة، لذلك سنقوم في هذه الدراسة بمعالجة المناهج الثلاثة التي طورها الفكر القانوني مبينين طبيعة العلاقة بينها، وما إذا كانت العلاقة بينها علاقة تعايش أم تنافس. ومن ثم سنقوم ببيان الجوانب التطبيقية لمنهاج قواعد التنازع في القانون