وصف الكتاب:
من الرواية: اختفى نصف قرص الشمس من بعيد إيذاناً بقدوم الليل، لحظات وعلا صوت حمزون بالتكبير لصلاة المغرب في قرية "هِوّ". جاء الرجال فرادى إلى المسجد القديم، لبوا النداء وتراصوا صفوفاً خلف الشيخ عبادة، ومن خلفه مقيم الشعائر حمزون. وكما دخلوا فرادى خرجوا فرادى إلى بيوتهم. لا أقدام تطأ الدروب بعد المغرب إلا لصلاة العشاء. مُحرّمٌ على الجميع الخروج في الليل، حيث يأخذ الجبل الساكن غرب القرية في جنوب الصعيد من يريد، أو يتصّيد من بقي في خيال الناس من أغاوات الوالي النساء كما يتصيّد القناصون الطير. يتحسس الرجال طريقهم على ضوء القمر، لكنه مخفي تلك الليلة، تجثم على وجهه سحابة سوداء خانقة، كلما انقشعت عادت سحابة أخرى، سكن الذعر في الديار كما سكن الظلام الدروب، خرج الرجال ثانيةً، وفي أياديهم المشاعل ومن خلفهم الصبيان، يتجهون إلى المسجد مرة أخرى، المخلصون من عباده يتدافعون إلى المسجد للصلاة طلباً للرحمة، يركعون ويسجدون داعين الله أن يفك الغمّة، وتنزاح الشياطين الممسكة بوجه القمر. وحين يغادرون بعد صلاة قصيرة انتهت بدعاء القنوت، تبعثر الرجال في الطرقات، حتى النساء وهن يخفين وجوههن بألحفة ثقيلة، الكل يلهج بالدعاء، يدخل "الأطرش" حاني الجذع دون سبب ثم يستقيم، يبسط الفُرش التي دهستها أقدام عباد الله وحرفتها عن مواضعها، يكنس ويمسح منبر الإمام الخشبي بخرقة ثم يستند إلى قوس المحراب بظهره ليستريح، يضحك وهو يرى الأية ما بين هلالين أعلى حلْق الباب "فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" . يحك ظهره ثم يدور ليستقبل القِبْلة، يشخص إلى الأية النافرة الحروف فوق المحراب "ق والقرآن المجيد". كل جدران المسجد مزينة بأيات من سورة "ق"، يتبرَّك أهل "هِوّْ" بها، فهي الجبل العظيم الحافظ للدنيا كما يحفظ جبل نصير قريتهم من الطوفان، فالجبل يُمسك بالقرية كما فعل بسفينة نوح.