وصف الكتاب:
للإمام جلال الدين السيوطي (ت 911هـ) كتاب اتخذ له عنوانا طريفا هو «أنشاب الكُثُب في أنساب الكتب»، قيد فيه طائفة عظيمة من الكتب التي أذن له أشياخه وشيخاته في غير ناحية من بلاد العرب بقراءتها والإخبار عنها، وكنت منذ قرأت خبرًا عن هذا الكتاب الذي اختصره في كتابه «زاد المسير في الفهرست الصغير» أزداد إعجابًا بعنوان الكتاب، وحزنت، آنئذٍ، أشد الحزن حين قال محققه: إن ذلك المعجم الكبير لم يصل إلينا، ثم إذا بي أقع على هذا السِّفْر ذي العنوان الطريف في معرض جدة الدولي للكتاب 1437هـ، فعددتُ ذلك من خير مقتنيات المعرض، وما أكثرها وما أعزَّها وأندرها! لن أتحدث عن الكتاب غير الذي قلته في مفتتح هذا الفصل، ولكنني سأقف متأملًا عنوانه البديع «أنشاب الكثب في أنساب الكتب»، فالسيوطي يعزز في كتابه هذا مذهبًا عربيًا وإسلاميًا في العلم والمعرفة والثقافة، فشجرة العلم في ثقافة المسلمين ليست منبتة عن جذورها، إنما هي تغور في أصول، ويتلقاها كل جيل عن الذي سبقه، ويسلمها الآباء إلى الأبناء فالحفدة، وتتحدر إلى الخلف من السلف، وحين جاء السيوطي في قرن من القرون الإسلامية المتأخرة، بعد أن أصابت الأمة وحضارتها الجوائح والكائنات، وشارف الناس معنى الفناء والذواء ألفى في الكتب أنسابًا مثلها مثل الناس، وهو، إذ اصطنع هذا العنوان، إنما يحيي قولًا طالما تكرر في كتب الحديث والفهارس والبرامج والمشيخات أن «الأسانيد أنساب الكتب»، فالعلم، في المحيط الإسلامي، لا بد له من أصل يلوذ به، وجَدٍّ أعلى يعتزي إليه الأبناء والحفدة والذراري، ولا نص مقبولًا، مسموعًا كان أو مقروءًا، إلا وله أصل يرتفع إليه، وشجرة نسب تجمع الفروع في أصل واحد. ولا يكون عالمًا ولا طالب علم من لم ينتمِ إلى تلك الشجرة، وإنه إن لم يَعْتَزِ إليها كان كمن لا أصل له، ونقرأ في كتب الفهارس والبرامج والمشيخات أصولًا وفروعًا من العلماء والكتب، هي إن تأملناها إعلان باستمرار هذه الأمة في الزمان والمكان، ولعل من أطرف ما نقرؤه في كتب القوم ما دعوه «مشجَّرات» يثبت فيها العالم أو الطالب شجرة نسبه العلمي، كما يثبت فيه شجرة آبائه وأجداده، على أن من أهم ما خلَّفته لنا الثقافة العربية الإسلامية أن الكتب نفسها مثلها مثل الإنسان، فمنها الجَدّ الأعلى، ومنها الآباء، والأبناء، والحفدة، ومن الكتب من امتدتْ سلالته في التاريخ، ومنها من عقم، ونكاد نمسك هذه الظاهرة في كتب الفقه والتفسير والتوحيد، كما نظفر بها في كتب الأدب والتاريخ والأخبار، فللكتاب، إذا رزق الحظ والشيوع، تتمة، وتكملة، وصلة، وذيل، وله، كذلك، اختصار، وتلخيص، ولبعض الكتب شروح، وحواشٍ، وتعليقات، وربما تفرَّد تلخيص أو مختصَر فأصبح رأسًا لقبيلة تتفرع شجرتها في المشرق والمغرب، نلقى ذلك في «تلخيص المفتاح» و»شروحه» في البلاغة، ونلقاه، كذلك، في المختصرات الفقهية، وأشهرها «مختصر أبي شجاع»، و»مختصر الخرقي»، و»مختصر خليل»، و»مختصر القدوري»، ونلقى ذلك في الألفية وما بني عليها من شروح وتحشيات، وفي هذه وتلك نظهر على شجرة العلم الإسلامي واستمرارها، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة.