وصف الكتاب:
وجه محمد علي همته إلى إيفاد البعثات المدرسية إلى أوروبا ليتم الشبان المصريون دراستهم في معاهدها العلمية، وهذه الفكرة تدل على ناحية من نواحي عبقرية محمد علي باشا، فهو لم يكن يكتفي بأن يؤسس المدارس والمعاهد العلمية في مصر ليتلقى فيها المصريون العلوم التي تنهض بالمجتمع المصري. بل اعتزم أن ينقل إلى مصر معارف أوروبا وخبرة علمائها ومهندسيها ورجال الحرب والصنائع والفنون فيها، وأراد أن تضارع مصر أوروبا في مضمار التقدم العلمي والاجتماعي، فقصد من إرسال البعثات إلى تكوين فئة من المصريين المثقفين لا يقلون عن أرقى طبقة نبيلة في أوروبا. وأراد من جهة أخرى أن تجد مصر من خريجي هذه البعثات كفايتها من المعلمين في مدارسها العالية، والقواد والضباط لجيشها وأسطولها، والمهندسين والقائمين على شؤون العمران فيها وإدارة حكومتها، لكي لا يتكون عالة على أوروبا في هذه الناحية. ولو تأملت مليا في العصر الذي نشأت فيه هذه الفكرة واختلجت في نفس محمد علي، لعجبت من عبقريته كيف أنبتت هذا المشروع، ففي ذلك العصر لم يفكر حاكم شرقي ولا حكومة شرقية في إيفاد مثل هذه البعثات، وهذه تركيا وسلطانها كان يملك من الحول والسلطة أكثر مما يملك محمد علي، لم تفكر حينذاك أصلًا في إيفاد البعثات المدرسية إلى المعاهد الأوروبية، فصدور هذه الفكرة في ذلك العصر وفي الوقت الذي كان محمد علي مشغولًا فيه بمختلف الحروب والمشاريع والهواجس يدل حقيقة على عبقرية نادرة وهمة عالية.