وصف الكتاب:
"سريعاً عرف يونس, أنه صار وحيداً, فالساحة خلت من الناس بعد بضع دقائق, وانصرف آخر العتالين متعباً, يجرجر رجليه الخاسرتين, ثم أقلع الباص نافخاً دخانه الرديء في المساء الطائش, تاركاً في أعماقه شعوراً بالكرب والأذى. وأكملت الريح السوداء ختام يومه, حين هبت زوبعة راقصة سريعة من الشارع المفتوح, حاملة معها أوراقاً ممزقة, وخرقاً, وأتربة, وغيمة مستسلمة من بقايا الشجر. كان يكره الصيف, ولم يعرف كيف اختار أن يعود في هذا الفصل التافه الذي يدع القلب عارياً, فارغاً, ومشوشاً كالخرائب. ران الصمت عقب ذلك. ولم يعد يرى أي مخلوق: لابشراً, ولا كلاباً, ولا قططاً. وبدا له كأن المدينة قبر. وقد همدت, وتعلقت على حافة المساء. شعر أنه فقد حس الاتجاهات, فلم يعرف الشرق من الغرب, ولا الشمال من الجنوب, وقد نزل في مكان غريب لم يره من قبل. ثم تذكر أنه, قبل ست وعشرين سنة, كان قد رصف هنا, بنفسه, مئات الحجارة, يوم اعتقلوه في زنازين الفحم. كان ذلك الزمن جزءاً من ماضٍ أحمق كالغبار, كل ما يريده هو أن ينساه, لكن كيف؟ هل يقطع حبل سرته؟ أم يخفيه داخل علبة من موزاييك الخشب؟ مستحيل! ذلك أنه اكتشف الآن أن ما من شيء حقيقي سوى الماضي وحده. فها هو يقف هنا غريباً لا يرافقه أحد إلا الذكريات. فكل ما يراه كان جديداً, حيث تبدو المدينة مجهولة تماماً, وكل هذه البيوت والعمارات صارت متاهة من الشراك والكمائن".