وصف الكتاب:
إن إثارة المستوى البصري لا تقل أهمية عن أي مستوى من مستويات الإثارة الشعرية في تجارب شعرائنا المعاصرين إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن النص الشعري الحديث يستعيض بالإيقاعات البصرية عن كثير من الإيقاعات الصوتية في تثبيت الرؤيا،وتعزيز منتوجها الإيحائي،وبعدها النفسي؛ وبذلك يؤدي التشكيل البصري دوراً تدليلياً على قيمة الفواصل السطرية في تعميق الرؤيا الشعرية، بما يزيد من فاعلية الجملة ومردودها الإيحائي؛ومن هذا المنطلق" لا يمكن أن نعدَّ المستوى الكتابي ثانوياً في التحفيز وإثارة الشعرية؛ لأنه يحمل دلالات يمكن سبر أغوارها حتى ولو كان المبدع نفسه لا يتحكم في إنتاج قصدي للمستوى الكتابي في أثناء عملية الإبداع الشعري. وبذلك يقع على عاتق المتلقي جزء كبير من مهمة الكشف عن كيفية توظيف التشكيلات الكتابية واستغلال الإمكانات التعبيرية للغة المكتوبة؛ وهذه لأن دراسة المستوى الكتابي لا تمثل تحليل اللغة الشعرية في مظهرها الكتابي فحسب، وإنما ترى في ذلك التشكيل البصري للغة مستوىً ينبغي التوصل إليه لمعرفة كنه الإبداع وجماليته في النص الشعري الحديث. وبذلك، فإن المستوى الكتابي يحكمه شكل يجد مرجعه في ذائقة المتلقي وحساسيته"(1). وبهذا التصور، فإن التشكيل البصري في أبسط تعريفاته هو:"كل ما يمنحه النص للرؤية،سواء أكانت الرؤية على مستوى البصر/ العين المجردة، أم على مستوى البصيرة/ عين الخيال"(2). وهذا يعني أن التشكيل البصري يطال الشكل الكتابي للقصيدة،بكل ما تتركه من فواصل،وفراغات، وعلامات ترقيم،وأشكال هندسية تتخذها الصفحة الشعرية؛ وهي – بهذا- تساهم في توجيه المتلقي إلى مخزونها الرؤيوي، ومنتوجها الفني عبر التشكيلات البصرية التي تتركها والفراغات التي تولدها، محققة أقصى درجات تمثيلها، وتحققها الفني؛ ذلك " أن التشكيل البصري يساير واقع الحياة المعاصرة التي تهتم بجانب المادة والمدركات الحسية،ويتضمن كل ما هو ممنوح في فضاء النص،ويحيل إلى أهمية المبصورات في إنتاج دلالة النص الشعري.. وهذا يعني أن اختلاف التشكيل من نص إلى آخر- حسب مضمون وحالة كل نص- يجعله جزءاً أساسياً في النص،بحيث يصبح المعطى الكتابي البصري مولداً للمعنى الشعري"(3). وبذلك، يغدو التشكيل البصري جزءاً من شعرية اللغة وتمنعها واستعصائها عند شعراء الحداثة، إذا ما استعصى عليه المعنى،وتاه في متاهات الغموض والتقعر اللغوي، وقد يكون العكس؛ إذ إن التشكيل البصري قد يؤدي دوراً فعالاً في كشف مغاليق اللغة؛ حيث يكون عنصراً فعالاً رئيساً في إنتاج المعنى، وتعميق الرؤية؛وتوجية سيرورة الدلالات، ولهذا أولى الشعراء التشكيل البصري أهمية قصوى في إخراج النص الشعري إخراجاً فنياً طباعياً يوجه القارئ إلى دواخله ورؤاه الشعورية، المستكنة في أعماق أعماقه. ومن هذا المنطلق:"أدرك الشعراء أهمية الإخراج في التأثير على النص من خلال وظائفه الرئيسة المتمثلة في جذب القراء،باستغلال المداخل المرئية اللازمة لعمليات الجذب؛ وذلك تبعاً لقدرتها على شد انتباه القراء،و تسهيل القراءة بتهيئة أفضل فرص التعرض أمام القارئ بما يتناسب مع النظرات السريعة المبنية على ضيق وقت القراء المعاصرين حيث يتعين أن تؤدي هذه النظرات لى الإلمام بأهم الوحدات المنشورة في الصفحات بما يسهل وصول القراء إلى الوحدات التحريلارية التي تلبي احتياجاتهم الاتصالية والناحية الجمالية؛وذلك بالتركيز على جوانب معينة من النص وإعطائها أهمية من شأنها دفع المتلقي إلى التعاطي مع النص بصرياً،وإدراك مراد الشاعر"(49). وبتقديرنا: إن فنية الشاعر تظهر في كل ما يتعلق بفضاء الصفحة الشعرية،من حيث مد الحروفنوطريقة ترسيمها أو تفتيتها وتوزيعها بمساحات وفراغات محسوبة بين الكلمات والأسطر الشعرية، بما يترك إيقاعه الفني وتأثيره الجذاب؛وهذا يتطلب وعياً من المبدع والقارئ في آن للدور الفني المنوط بهذه التشكيلات بوصفها بنى دالة لاغنى عنها في تمتيين أواصر النص وإثراء شعريته. وحرصاً منا على دراسة مظاهر إثارة هذا المستوى –بدقة- عند شعراء الحداثة،سنعمد إلى تبويب طرائق هذه الإثارة وفق المنظورات التالية: أولاً- التشكيل البصري والسطر الشعري: إن تفاوت أطوال الأسطر الشعرية في القصائد الحداثية غالباً ما يتبع الموجة النفسية الشعورية أو الدفقة الشعرية،وصدى ارتداداتها الداخلية،وانعكاسها على الواقع اللغوي للقصيدة؛وهذا يعني أن الداخل الشعوري ينعكس على بنية القصيدة ،وطرائق تشكيلها من موجات سطرية قصيرة إلى موجات متوسطة إلى موجات طويلة، أو العكس،بشكل متفاوت يتناوب بين الطول والقصر،والمد والبتر،تبعاً لمخزون الشاعر النفسي وامتداد الموجات الشعورية، أو تسجيلها البصري على بياض الصفحة الشعرية؛ مما يؤكد "أن تحول النص الشعري الحديث من القالب البيتي المحدود بعدد ثابت من التفعيلات –قياسات محددة مسبقاً- إلى رحاب السطر الشعري قد فتح المجال أمام التشكيل البصري في السطر الشعري. وقد ساعد الإخراج الطباعي الشعراء على إجراء تشكيلات بصرية تجسد الدلالات البصرية التي يرومون تجسيدها للمتلقي"(5). وتبعاً لهذا،تفاوتت الأسطر الشعرية؛ محققة أقصى درجات تمثيلها للداخل الشعوري،لتكون القصيدة هي ممارسة هذا الداخل عبر اختلاف موجات الأسطر الشعرية،وإفراز الدلالات،وتشعب مناحي الرؤية الشعرية المجسدة. وبالنظر في طريقة التشكيلات البصرية المتخذة في بنية السطر الشعري وتجلياتها في الشعر العربي الحديث،نلحظ المجالات التالية: الأطوال السطرية المتفاوتة: ونقصد ب(الأطوال السطرية المتفاوتة): تفاوت أطوال الأسطر الشعرية من حيث عدد الكلمات وتوزيعها في السطر الشعري؛ وقد التفت الباحث محمد الصفراني إلى هذا النمط في التشكيل السطري قائلاً:" ونعني بالأطوال السطرية المتفاوتة تفاوت طول سطرين شعريين متواليين أو أكثر تفاوتاً كمياً من حيث عدد الكلمات... ويعد تفاوت أطوال الأسطر الشعرية الملمح الأبرز في نصوص الشعر العربي الحديث"(6). وبمنظورنا: إن تفاوت أطوال الأسطر الشعرية- عند شعراء الحداثة- لدليل على أن الشاعر الحداثي مسكون بالهاجس الداخلي/ أو هاجس التكثيف الشعوري ليرسم أصداء هواجسه بتفاوت أطوال أسطره الشعرية،بشكل غير متساوٍ،مما يدل على سكونه في الحالة،وتخليقه لها شعرياً؛ بما يملك من أدوات،ورؤى معرفية، فنية نابعة من حسه المفعم،وتأملاته الشعرية؛ وتبعاً لهذا،نلحظ تجليات عديدة لتفاوت الأطوال الشعرية نحددها في الأشكال التالية: التفاوت السطري المتدرج: ونقصد ب[ الأطوال السطرية المتفاوتة]: تفاوت أطوال الأسطر الشعرية تدريجياً إما ارتفاعاً،وإما انخفاضاً،تبعاً لتفاوت الدفقة الشعورية،وتمثيلها للسطر الشعري. ويعد(التفاوت السطري المتدرج) التشكيل البصري الأمثل –عند شعراء الحداثة- في تمثيل تذبذب الحالة الشعورية بين القوة والامتداد الصوتي والزخم الشعوري،وحالة الضعف والانكسار والوهن العاطفي(الانحسار السطري)؛ وهذا يعني أن عملية تفاعل المتلقي مع الشكل السطري تخضع لفاعلية الرؤية،وزخمها ومؤثراتها البصرية،وامتداداتها السطرية،وطول الموجة الشعورية(ارتفاعاً/ وانحساراً)؛ مما يدل على منعرجاتها العميقة،ورؤيتها المكثفة. ومن القصائد التي لجأت إلى تقنية التفاوت السطري المتدرج قصيدة(للكلمات رائحةُ الحريق) لشوقي بزيع، وللتدليل على ذلك نأخذ المقتطف الشعري التالي: "ويستعيدكِ من دمي المهجورِ نملٌ طافحٌ بالشوقِ والقبلاتِ كم تبدو الحياة ثقيلة منذ ابتعدتِ"(7). هنا،إن الشاعر لشدة الأسى والاحتراق الشعوري على فراق الحبيبة،وتوقه المستعر إلى تقبيلها والتمتع بعبير جسدها البض الجميل أحس بثقل الحياة وتحجرها إثر فراقها وابتعادها،فتقطعت أنفاسه،وانحسرت موجاته الصوتية بالتدريج حتى وصلت إلى كلمة أو كلمتين،وهنا،رسم الشاعر ملامح إحساسه بصرياً عبر تفاوت أطوال الأسطر الشعرية انخفاضاً تدريجياً،تعبيراً عن الحالة العاطفية التي تملكته فلم يستطع حيالها إلا الانقطاع والتحسر والألم، وهذا دليل أن الشاعر استطاع أن يوظف تقنية(التفاوت السطري المتدرج) في تشكيل أطوال أسطره الشعرية؛ ليسجل صدى إحساساته الشعورية تسجيلاً بصرياً عبر تفاوت الموجات السطرية بالتدريج؛ وهذا يمنح النص دلالة صوتية وبصرية في آن تسهم في تقبل النص والوقوف على الكثير من منعرجاته الدلالية.