وصف الكتاب:
في عالم لم يعد فيه ما يدهش أو يدفع الحماس في عروقك.. أتحدى واثقا أن يشعل شعوري أحد ما دهشةً أو بكاءً أو حتى فرحاً، وكأنما ليغيظني.. يخرج عليّ أحد ما بصورة تمزق نياط القلب بهجة وحبوراً، لا لم تخطئوا قراءة الكلمة.. فهناك حب يبكيك وشوق يضحكك.. وفرح قادر على استدرار الدمع الصادق من عيونك التي لا تصدق ما ترى..! صاحب الصورة اليوم ليس مطربا مشهورا.. ولا سياسيا لامعا.. لم تتحدث عنه الجرائد باعتباره فتحا جديدا في عالم الكمبيوتر أو الصحون الطائرة، ولا كان من أيادي الخير الذين يقدمون المساعدات باليد اليسرى فيما الهاتف في اليمنى يأخذ مع كرامة المعوزين “سيلفي”، صاحب الصورة اليوم أب بسيط بحث طويلا – مثلنا تماما – عن نصر من أي نوع، أي نصر يبقيه حيا.. ألا تعلمون أن الحاجة إلى النصر والاعتزاز بالنفس ضرورة ملحة؟!.. تماما هي كالحاجة إلى المأكل والمشرب والحب المترجم جسديا وروحيا، صاحب الصورة اليوم وجد نصرا جاهزا في صورة نجاح ابنته.. قلت نصرا جاهزا ولم أقل سهلا !! لا بد أنه وقف لساعات – شأن أي مواطن في العالم الثالث لا يجد مقعدا للانتظار – أمام غرفة التوليد، لا بد أنه ابتهج عندما خرجت “النيرس” لتهنئه بـ”بنت كالقمر”، لا بد أنه اشترى علبة “ناشد إخوان” أو “سلفانة” ووزعها على الواقفين المنتظرين بشراهم مثله، لا بد أنه وقف حائرا أمام موظفة السجلات في المستشفى العمومي يستعرض كل أسماء الجميلات التي مرت به في حياته قبل أن يهتف بالموظفة التي نفد صبرها: “لينا”، ولا بد أن زوجته نظرت إليه من تحت الغطاء الأبيض متشككة وهي تتساءل من بين أسنانها: “من لينا التي أسميت ابنتك على إسمها؟!”.. أب عادي هو.. سعيد رغم علمه أنه سيحرم من ساعات النوم القليلة التي يغلق الدكان البسيط الذي يعتاش منه لأجلها، سعيد رغم العصبية التي بدأت تظهر عليه كلما أحبت الصغيرة أن تكدر صفو لياليه بـ”الواع” التي لا ينتهي فيها حرف الألف أبدا، سعيد رغم الحرارة التي اعتلت جبين الصغيرة في الليلة ذاتها التي أعلن فيها عن إفلاس الصبر في نفسه.. فنراه يحمل الصغيرة كالمجنون إلى المستشفى العمومي ذاته ليقف في طابور طويل كيوم الدينونة.. حتى إذا دخل على الطبيب استجداه علاجا للصغيرة كي تقر عينه التي حرمت النوم.. قلت لك أنه نصر جاهز ولم أقل أنه كان سهلا أبدا..! لا بد أنه التقط لـ “لينا” أول صورة بمريول المدرسة ليعلقها على حائط الإنجازات في الصالة، لا بد أنه ملأ الدنيا صياحا عندما خدشتها بنت الجيران أثناء اللعب.. ثم تصالح مع أهل الجانية وعاد لينبه زوجته ألا تدعها تلعب مع تلك “المؤذية” ثانية، هو أب عادي كما قلت لك من قبل.. لذا لا بد أن لينا كبرت أمام عينيه وأفرحت قلبه بشهادة الثانوية العامة، ثم ألقت إليه بنظرة جانبية وهي تلقي سؤالها الحتمي: “هل سأدخل الجامعة؟!” “طبعا يا قلب أبيك” !! لينا في كلية الهندسة الآن وقد ألفت المثلثات والمناقل ومساطر الـ”T” حتى أصبحت ترى العالم من فتحة المنقلة.. وتقيس طول أبناء الجيران الصغار بمسطرة الـ”T”، تقول لأمها: “هيثم ابن صفاء جارتنا أقصر من مسطرتي بسنتيمترات قليلة”، ثم تمر السنون ويزداد طول هيثم ابن صفاء ليتجاوز طول المسطرة مرتين و….. وتتخرج لينا !! يعود أبو لينا من حفل التخرج لا يعلم هل هو يبكي أم أن رمد الربيع قد زار عينيه في الخريف.. يا لخريف العمر!!.. ينظر إلى لافتة الدكان البسيط الذي شهد أبسط أحلامه وأكبرها، لا بد أن اسمها كان “دكانة الأمانة” أو “بقالة الإخلاص” أو “متجر السعادة”.. أو أي اسم يخطر ببالك قد يكون تواجد يوما على لافتة دكان حيك.. المهم أن “أبو المهندسة لينا” الذي قضى حياته – مثلنا تماما – يبحث عن نصر من أي نوع، أي نصر يبقيه حيا.. أحضر عتلة ما فكك بها اللافتة القديمة لينهال من خلفها تراب السنين، ثم فتح علبة الدهان الجديدة واشتم رائحتها النفاذة شاعرا أنها أجمل رائحة في الكون كله.. رائحة فرحته هو بالذات!!.. ثم بدأ يرسم الحروف التي ترونها في صورة اليوم أمامكم.. وحين انتهى.. وحين علق اللافتة الجديدة والفخر يملأ نفسه.. وحين انفض جمع المهنئين من الباعة الذين جاوروا دكانه عمرا..! زاره خاطر مخيف.. فأخرج كرسي الحبال الصدئ إياه ليجلس على باب الدكان ويمسك بالعتلة متوعدا… ينوي شج رأس أول المتقدمين لخطبة لينا…!!