وصف الكتاب:
اللسانيات الحديثة: في المصطلح والمفهوم. أ- في المصطلح: تسمى اللسانيات باللغة الانكليزية"linguistics "، أمّا باللغة الفرنسية فتسمى "linguistique"، فيما يطلق عليها باللغة الألمانيةsprachwissenchaft" ". وترجع هذه المصطلحات الثلاث إلى الكلمة اللاتينية ( lingua)، وهي تحمل معنى اللسان أو اللغة واللاحقة (ics-ique) التي تدل على معنى العلم، والدراسة، والنسبة. فالتقدير هو "linguistics science"1، وقد استعملتها اللغات الأوروبية المتفرعة عن اللغة اللاتنية بالمعنى نفسه ،و بتغير في شكل الكلمة ،على حسب نظامي النطق والكتابة في كل لغة منها. وقد اختلف الباحثون في أول من استعمل هذا المصطلح في الثقافة الغربية ، فذهب (جورج مونين) إلى أن أول من استعمله هو (فرنسوا رينيوار) ( francois raynouard) سنة 1816، في كتابه(des traubadour chois des poésie ) 2،ويرى آخرون أن هذا المصطلح قد ظهر في ألمانيا، ثم اُستعمل في فرنسا سنة 1826 ،ثم في انكلترا ابتداء من 1855، فيما يعتقد كل من نعمان بوقرة و عبده الراجحي أنّ (فرونز بوب) هو أول من استعمل هذا المصطلح، كما كان أسبق من "دي سوسور" في دعوته الى استقلالية العلم اللساني3. يقول (جورج مونين) في كتابه "تاريخ اللسانيات": " إنّ اللغات التي نعالجها في هذا الكتاب هي مدروسة لنفسها ،أي أنّنا نتّخذها، كموضوع بحث،لا كوسيلة معرفة "4 إنّ هذا القول يشبه إلى حد كبير قول دي سوسور بدراسة اللغة في ذاتها و لذاتها. أمّا أوّل من نقل هذا المصطلح إلى الثقافة العربية، فهو محمد مندور في كتابه "النقد المنهجي عند العرب و منهج البحث في الأدب واللغة"، مُستعملا مصطلح "علم اللسان" 5.و قد عرف هذا المصطلح linguistique)) عدّة تسميات في اللغة العربية، تعددت وتنوعت بأثر من ثقافة الباحث وخلفياته المعرفية والابستمولوجية، فظهرت مصطلحات، مثل " علم اللغة، اللغويات، الألسنية الألسنيات، فقه اللغة، علم اللغة، علم اللسانيات...الخ"، وفي سنة 1978 نظّمت الجامعة التونسية ندوة تحت عنوان " الألسنية واللغة العربية " وأجمع المشاركون و المداخلون في أشغال هذه الندوة على أن أيسر و أنسب المصطلحات المتداولة في البلدان العربية وأقربها إلى روح اللغة العربية، هو مصطلح اللسانيات، الذي تبنّاه الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح، وقد أنشأت الجزائر-تحت إشرافه- معهدا متخصصا في اللسانيات " أُصدرت به مجلة متخصصة في علوم اللسان. إنّنا نقول اللسانيات ،على قياس الرياضيات والفيزيائيات و الكيميائيات، ولا نقول علم اللسانيات لأن اللاحقة "ات"تقابل اللاحقة "ique "، التي تدل على معنى علم. أما إذا وضعنا مصطلح اللسان في ميزان المعاجم العربية، فإنّنا سنجد له مكانة رفيعةو تواجدا مكثفا، في جميع المعاجم التراثية و الحديثة، عكس مصطلح اللغة، الذي لا وجود له في المعاجم العربية غير ماقيل أنّه جاء من اللغو و اللغي و هذا غير واف للاحتجاج به6. لقد جاء مصطلح (اللسان) في معجم لسان العرب لابن منظور، في قوله:" اللسان: جارحة الكلام، وقد يُكْنَى بها عن الكلمة فيؤنث حينئذ؛ قال أَعشى باهلة: إِنِّي أَتَتْني لسانٌ لا أُسَرُّ بها من عَلْوَ، لا عَجَبٌ منها ولا سَخَرُ، قال ابن بري: اللِّسان هنا الرِّسالة والمقالة؛ ومثله: أَتَتْني لسانُ بني عامِرٍ، أَحاديثُها بَعْد قوْلٍ نُكُرْ" 7، وهو يقصد به معنى الكلام و الحديث. أورد الراغب الأصفهاني مصطلح (اللسان) في معجم مفردات ألفاظ القرآن في قوله : " لسن اللسان الجارحة وقوّتها، وقوله : وأحلل عقدة من لساني. يعني به من قوة لسانه فإنّ العقدة لم تكن في الجارحة وإنّما كانت في قوته التي هي النطق بها. ويقال : لكل قوم لسان ولسن، لا بكسر اللام أي اللغة، وقوله (واختلاف ألسنتكم و ألوانكم)، إشارة إلى اختلاف اللغات و إلى اختلاف النغمات فإنّ لكل انسان نغمة مخصوصة يميزها، كما أنّ له صورة مخصوصة يميزها البصر8. قال الإمام الجوهري في مصطلح اللسان :" اللسان جارحة الكلام... واللسن الفصاحة و قد لسن، فهو لسن و ألسن و قوم لسن و فلان لسان القوم إذا كان المتكلم عنهم... و اللسن : اللغة و اللسان جمعه ألسنة، وألسن و لسن، و هو جسم لحمي مستطيل متحرك يكون في الفم ويصلح للتذوق و البلع والنطق هو مذكر وقد يؤنث9، إنّ الجوهري يربط بين اللسان و اللغة، لذا نجد عمار ساسي يتساءل عن حقيقة هذا الربط و مدى صحته. ب- في المفهوم : إنّ اللسانيات علم حديث، وُلد على أنقاض العلوم اللغوية الكلاسكية المٌتمثلة في فقه اللغة المقارن، والنحو المعتمد على المنطق الأرسطي، و القياس، و التأويل و التعليلات المجردة بعدما أحدث قطيعة معرفية ومنهجية مع هذه الدراسات، وقد كان صاحب هذه القطيعة العالم اللساني السويسري (فيردنان دي سوسور)، الذي دعا إلى ضرورة دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها، باعتبارها ظاهرة من الظواهر الانسانية، يحق لها كل الحق أن تدرس، وأن تقيم علما مستقلا بذاته، مرتكزا على جميع الأدوات الفكرية و الاكتشافات الحديثة، و التقنيات الدقيقة، بهدف بناء نحو كلي للسان البشري، يصف ويفسر خصائص ومبادئ اشتغال اللغات الطبيعية بشكل عام، فتنصبُّ أسئلتها كالأتي: لماذا تعمل هذه اللغة بهذه الطريقة الخاصة ؟ وما كيفية اشتغال نظامها الداخلي؟ وماهي نقاط التشابه بين الألسنة البشرية من جهة ؟ وماهي نقاط الاختلاف بينها من جهة أخرى ؟ و ماهو سبب هذا الاختلاف ؟ وهكذا، فاللسانيات الحديثة تسعى من أجل نظرية عامة لوصف و تفسير الظواهر اللسانية بعيدا عن كل الاعتبارات الخارجة عن نطاق اللغة البشرية معتمدة على "آليات منطقية تسمح للذهن بترتيب إجراءاته، بعيدا عن التسليم بالحقائق و التلقي السطحي والأحادي للمعرفة"10 وقد حاول بعض الباحثين تعريف اللسانيات للقراء العرب، فألّفوا في ذلك كتبا تتفاوت قيمتها بحسب مقدرة كل مؤلف في إدراك المفاهيم الأساسية لهذا العلم القائم بذاته11، ولا بأس أن نسرد بعض هذه التعريفات، لهذا العلم الجديد لنتبيّن إن كانت تختلف أم لا. لقد عرّفت خولة طالب الابراهيمي -وهي تلميذة عبد الرحمن الحاج صالح -"اللسانيات بأنّها الدراسة العلمية الموضوعية للسان البشري أي دراسة تلك الظاهرة العامة والمشتركة بين بني البشر والجديرة بالاهتمام و الدراسة بغض النظر، عن كل الاعتبارات الأخرى، التي لا تٌعد من صلب اهتمام اللسانيين12 ،فيما ذهب نعمان بوقرة إلى أنّ اللسانيات "علم يدرس اللغة ( الطبيعية والاصطناعية ) دراسة علمية تقوم على الوصف، ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية"13، بينما يعرّفها صالح بلعيد بأنّها" ذلك العلم الذي يدرس اللغة على نحو علمي من حيث أصواتها وتركيبها ودلالاتها، دون الاهتمام بالسياقات الاجتماعية "contexte social " التي تكتسب فيها اللغة وتستخدم"14 ،أمّا أندري مارتيني فيعرف هذا العلم "بأنّه الدراسة العلمية للسان "15 فيما يرى مصطفى حركات أنّ هذا التعريف عامٌ جدا، ولا يحدد اتجاه هذه الدراسة ونوعها واهتمامها16، بحيث أثار عدّة قضايا أخرى تتعلق بميدان هذا العلم ولعل أهم قضية أثارها هي قضية العلمية في مجال اللسانيات هذه القضية التي سوف نحاول تدارسها لاحقا. أما تعريف نعمان بوقرة، فنلاحظ فيه أنّه يرى أنّ هذه الدراسة تتجاوز اللغات الطبيعية إلى اللغات الاصطلاحية، كذلك، ومنها إشارات المرور، والرموز ولغة الصم البكم، وهو مالا يتفق إلى حدّ كبير مع تعريف دي سوسور، حين يقول هذا لأخير إنّ مادة اللسانيات تتكون بادئ ذي بدء ،من جميع مظاهر السان البشري سواء تعلق الأمر بالشعوب البدائية أم الحضارية، بالحقب القديمة أم بحقب الانحطاط والمعتبر في كل عصر من هذه العصور ليس الصحيح والكلام الأدبي فقط ولكنّ جميع أشكال التعبير مجتمعة17، فنحن لا نجد عند دي سوسور حديث عن اللغات الاصطلاحية، بل هو جعل علم اللسانيات منظويا تحت علم أوسع أسماه بالسميولوجيا، وهو يهتم بسائر العلامات، ومنها الاصطلاحية. فيما يقترب تعريف صالح بلعيد الى تعريف دي سوسور القائل " بدراسة اللغة لذاتها، وفي ذاتها"18، وكذا في إيلائه الأهمية لضرورة البحث في مستويات البحث اللساني جميعها. إن الدراسة اللسانية تشمل مستويات محددة هي كالأتي: 1- المستوى الصوتي، أو علم الأصوات: يدرس الأصوات الكلامية وتصنيفاتها من النواحي الآتية: أ- إحداث الصوت من حيث نطقه، والاستعدادات، والقدرات الجينية الوراثية التي تؤهل الإنسان لنطق أصوات الكلام، ويتناول هذا الجانب علم الأصوات النطقي. ب- بنية الأصوات، وهي في طريقها إلى أذن السامع، والجوانب السمعية المتعلقة بذلك ويتناول هذا الجانب علم الأصوات النطقي. 2- ت- العمليات النفسية العصبية، التي لها صلة بإدراك الأصوات، ويدرس هذا المجال علم الأصوات العصبي19،أما علم الأصوات الوظيفي فيدرس وظائف الأصوات داخل الكلمة المفردة والعلاقات بينها من أجل تكوين معنى الكلمة، وهذا النوع متّصل بالدلالة. ويسميه محمد محمد علي يونس بعلم الصياتة 2- المستوى الصرفي أو علم الصرف : يهتم بالقواعد والقوانين التي تحكم الكلمات في بنيتها الداخلية وخصائصها الثابتة عن طريق طائفة من العلاقات العضوية و أخرى من المقابلات أو القيم الخلافية بين المعنى وبين المبنى ،كالعلاقة في المبنى بين "ضَرْب" و "شَهْم" من حيث تشابههما في الصيغة، فهي "فََََعْل" فيهما ،و كالمقابلة التي تتمثل في القيمة الخلافية بين أحدهماو الآخر من جهة المعنى فأولهما "مصدر" وثانيهما " صفة مشبهة"20 كما يعرفه عبد العزيز عتيق بأنٌه" يبحث في بنية الكلمة لغرض معنوي أو لفظي، ويراد ببنية الكلمة هيأتها أو صورتها الملحوضة من حيث حركتها أو سكونها وعدد حروفها"21، مؤكدا أنٌ مجال دراسته تشمل الكلمة فقط. و الملاحظ أنٌ بعض اللسانيين واللغويين القدامى يدمجون علم الصرف بعلم النحو، فيما يفضل آخرون فصله عن النحو كما فعل أبو عثمان المازني عام 249ه في كتابه " التصريف " الذي شرحه ابن جني في ثلاثة أجزاء بعنوان " المنصف " ثم اختصره في كتاب آخر بعنوان مغاير للأول وهو " التصريف الملوكي " كما ألف ابن حاجب المتوفي عام 646ه كتاب "الشافيه"22 في الصرف، لكن هذا الفصل لم يتم بصفة كلية فمازالت كثير من مباحث الصرف تدرس ضمن النحو في وقتنا الحالي مثلما فعل أحمد مختار عمر في كتابه " البحث اللغوي عند العرب " حين دمج علمي النحو والصرف في فصل واحد.23 3- المستوى النحوي أو علم النحو أو علم التراكيب : يهتم بدراسة عناصر الجملة وتراكيبهاو خصائصها وقد عرّف القدماء النحو "24 بأنّه يهتم بأواخر الكلمات إعرابا وبناء" ، ما يدل على أن الإعراب والبناء من أهم خصاص أواخر الكلمات داخل الجملة. 4 - المستوى الدلالي أو علم المعنى أو علم الدلالة : و هو" ذلك المستوى الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز حتى يكون قادرا على حمل المعنى "25، وبالتالي، فإنّ علم الدلالة منتشر في جميع مستويات اللغة من الجانب الصوتي والصرفي و التركيبي وحتى التداولي، لأن جميع هذه المستويات مرتبطة بالمعنى. 5- المستوى المعجمي : وهو يهتم بدراسة الكلمة وتواجدها داخل المعجم وفق مجموعات تربطها علاقات معينة كما يهتم بدراسة معجم كل لسان لوحده ليبن درجة غناه وفقره، كما يتربط علم المعاجم بعلم آخر هو علم صناعة المعاجم (Lexicography)، ومن أشهر المعاصرين العرب الذين لهم دراسات جادة ومفيدة في علم المعاجم العالم العراقي "علي القاسمي". كما أن مكتب تنسيق التعريب بالرباط ومجلته "اللسان العربي" لهما اهتمام كبير بعلم المعاجم وعلم صناعة المعاجم26 . 6- المستوى التداولي : يعرّفه "محمد محمد يونس علي" بأنّه يهتم بدراسة كيف يكون للمقولات معان في المقامات التخاطبية "27، بحيث نجد هذا المستوى الجديد يهتم كثيرا بالسياق الخارجي و الظروف المحيطة بالخطاب و التي تكسبه معان معينة، ومن جملة الأسئلة التي يحاول الإجابة عنها نجد: أ- كيف نربط علاقة مع الأشخاص الآخرين بواسطة القول ؟ ب-كيف نسهر على بقاء علاقات موجودة سلفا ؟ ج- كيف يمكننا التأثير على نشاط وآراء الأشخاص الآخرين ؟ د- ماهي الشروط الخفية التي تحفز على عمل ما وتجعله ينجح ؟كيف تتم الإحالة داخل التلفظات على سياق النشاط و المقام ؟28 إنّ هذه المستويات أو العلوم تترابط فيما بينها بطريق يصعب الفصل فيها، فينهل بعضها عن بعض في المبادئ النظرية وفي بعض الإجراءات العملية وعلى سبيل المثال، لا الحصر العلاقة القريبة جدا بين التداولية و علم الدلالة في اعتمادهما على السياق لكشف المعنى.