وصف الكتاب:
كانتْ لحظة مربكة أن يكون خلاصنا حين نعطي ظهورنا للوطن، حين نهرب منه بكل ما نملك من خوف وأمل وشكّ ويقين. تذكرتُ مقولة كداني حين تملكه اليأس ذات مرة: " الوطن كذبة بيضاء يروّجُ لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة". اقترب السودان أكثر، فبدأتْ إرتريا في الابتعاد. أنانيّة هي الأوطان، لا يأتي وطن إلا حين يغادر الآخر. أجزم أن هؤلاء الذين يركضون إلى جواري، وبقدر رغبتهم في الإفلات من الوطن يشعرون بالألم. بقدر حرصهم على الحياة خارجه، يفزعهم أن يموت يوماً بداخلهم، أو يتسرب بهدوء من بين ضلوعهم قبل أن يتمكنوا من دسّه في آخر مخابئ الروح. أجزم أن هؤلاء يغادرون إرتريا والخيبة معلّقة بجباههم كأجراس كنائس الأحد، لا تكاد تهدأ، حتى تُعلن عن نفسها من جديد. أجزم أن الوطن الذي ضاق بناسه إلى هذا الحد، صار وسيعاً جداً بالأوجاع. أجزم أنهم وفي هذا الوقت بالذات، يملأهم القلق في أن يعبروا إلى السودان بذاكرة متخمة بأيام الصبا في الشوارع الخلفية، وقهوة الجدّات في المساءات المكتظة بالحكايات. أجزم أنهم يخافون ذاكرتهم أكثر من أي شيء آخر، يخافون منها وعليها، بعد أن أصبحتْ آخر خط دفاع في معركة غير متكافئة. كنا نركض بكل قوتنا، نتفادى شجيرات "المرخ" التي يُكثر القرويون من زراعتها كغذاء لمواشيهم، ومصدات أمام زحف الرمال على قراهم. خطر لي أننا أحوج ما نكون إلى أشجار مرخ أخرى توقف زحفنا خارج الوطن، وتعمل كمصدات تقي أحلامنا وأمانينا وحتى ذاكرتنا من الضياع.