وصف الكتاب:
كان كتاب هارالد موللر "تعايش الثقافات؛ مشروع مضاد لهنتنغتون" الذي نشر باللغة الألمانية لأول مرة عام 2001 في فرانكفورت، من أكثر الكتب مبيعاً في ألمانيا أثر أحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك، وخاصة في أوساط الطلبة الجامعيين والمثقفين. أما الكتاب الذي فاقه في عدد النسخ المبيعة فقد كان، بطبيعة الحال، كتاب هنتنغتون نفسه "صدام الحضارات" الذي كان في متناول القارئ الألماني مترجماً بعنوان "صراع الثقافات" مقترناً بالعنوان الأصلي باللغة الإنجليزية. إن كتاب هنتنغتون في الأصل، كما هو معروف، مقالة نشرها في مجلة "الشؤون الخارجية" الأمريكية، فأثارت صدى هائلاً لم تشهده المجلة منذ تأسيسها، وقد أعاد هنتنغتون تقديم نظريته هذه للجمهور في سفر ضخم بالعنوان نفسه، بعد أن حذف علامة الاستفهام، وهذا إشارة سيميولوجية تعني أن الطرح قد انتقل من مستوى الفرضية التي تحتمل وجهات نظر مختلفة، إلى مستوى النظرية الراسخة القائمة على عدد كبير من الوقائع والبديهيات المسلّم بها. ومنذ صدور المقالة ثم الكتاب لم يتوقف تردد الدويّ الهائل الذي أحدثه شعار صراع الحضارات مثيراً بشكل مستمر تقريباً مؤيدة وناقدة وخاصة في أوروبا والعالم الإسلامي. لقد كان هارالد موللر في كتابه هذا من بين أهم الذين قدموا في ألمانيا، وربما في العالم بأسره، إسهاماً يتصدى لما في نظرية هنتنغتون من ارتباك في المنهج، وتسطيح في المعالجة، ومغالطة في الطرح، ولوياً لعنق الحقائق والوقائع، أو تجاهلاً لها، لكي تتماشى مع فرضياته واستنتاجاته. وقد فعل ذلك برؤية وصفية مركبة كشفت عما في نظرية هنتنغتون من عيوب أساسية، ففي الفصل الأول المعنون بـ"عالم هنتنغتون-نقد"، فنّد موللر الخطوط الأساسية في نظرية هنتنغتون عن الأخلاق الحضارية الكبرى التي تقف في حالة صدام ومواجهة، من خلال ثلاثة أمثلة منتقاة عن "الحدود الدامية للإسلام" و"الحلف الإسلامي-الكونفوشيوسي" و"الأزمة البوسنية"، وأظهر أن هنتنغتون قد وقع في مغالطات جوهرية، بل وأساء استخدام قواعد الإحصاء الأساسية، وتجاهل من الوقائع ما يتعارض مع طرحه أو قد يناقض استنتاجاته أن مقولة موللر الأساسية في هذا الكتاب تتمحور حول فكرته القائلة: "أن عالمنا بهذا التعقيد والتركيب يحتاج من أجل فهمه إلى رؤية عالمية مركبة" ولذلك فهو يقف بصرامة لا تخلو من السخرية ضد التبسيط الشديد الذي ميّز نظرية هنتنغتون، والذي يقع فيه كثير من المكفرين والساسة الأمريكيين استجابة لحاجة جمهور عريض غير مهتم بالعالم الخارجي البعيد ولا يعنيه أن يتتبع تفاصيل كثيرة مرهقة، أو يعرف خلفيات معقدة؛ بل يريد توجيهات سريعة واضحة من مثل: إننا نقف مع الخير ضد الشر، أو مع الحرية ضد القمع... الخ انطلاقاً من مبدأ "نحن ضدهم" السهل. بيد أن موللر لا يغرق القارئ في تفنيد كتاب هنتنغتون بما فيه من وقائع وشواهد وتفصيلات لا حصر لها، بل يمضي مباشرة إلى تقديم مشروعه المضاد لرؤية هنتنغتون القاتمة. ويقدم مشروعاً عالمياً فيه كثير من التفاؤل المؤسس على معرفة رصينة، مدعّمة بالحجج والأسانيد، وقائمة على منهج علمي محكم؛ متوصلاً إلى أن العالم ليس في سبيله لتكوين أحلاف حضارية تقف في حالة صدام ومواجهة بعضها ضد بعض، وإنما هو في سبيله لمزيد من التعاون والتشابك والارتباط، لأن هناك ثلاث ديناميات جوهرية تحول دون تشكيل مثل هذه الأحلاف المتصادمة وهي: دينامية عالم الدول، دينامية عالم الاقتصاد، دينامية عالم المجتمع. إن هذه الإطلالة على أفكار هذا الكتاب لن تكون بديلاً عن قراءته، فهو كتاب يجب قراءته كاملاً بكل فصوله وأبوابه من أجل الوقوف على رؤيته الكلية واستيعابها كاملة.